قبل عقدين من الزمن.. عرفته في منتصف الخمسينيات من عمره، رجلٌ يتحدث بأناقة لافتة.. جملٌ قصيرة ومكثّفة ومعانٍ جديدة لم أقرأها من قبل، كان ذلك بعد بحث ومحاولة للوصول إليه لإجراء حوار معه، واتتني الفرصة حين استضافته اثنينية الأديب ورجل الأعمال الراحل عبدالمقصود خوجة، يومها شاهدته لأول مرة يتحدث أمامي، لم يكن يتحدث بقدر ما كان يغني، حياته من قرية آل خلف إلى شوارع باريس، انتبهت لفكرة أنه أبعد من سردٍ روائي وأقرب من دهشة شاعر، بعد انتهاء الاحتفاء به في الاثنينية، عرّفته بنفسي وطلبت منه حوارا لمجلة فواصل، اعتذر مني على وعد أن يمنحني الفرصة عند عودته إلى جدة بعد شهرين، وقد كان.
يوليو 2006 ضرب لي موعدا صباحيا مبكرا لإجراء الحوار، اصطحبت معي يومها الصديق المصور يونس السليمان، وفي غرفته بفندق الشيراتون المطلة على كورنيش جدة تجلّى أبو نبيلة، وبعد انتهاء الحوار نظر إليَّ مبتهجا وقال: منذ زمن لم أتحدث بهذه الأريحية، كانت لحظة مهمة في حياتي أثناء بداياتي الصحفية، ومن يومها امتدت الصداقة رغم قلة اللقاءات، وأصبح جمعٌ من أصدقائه أصدقاء لي بفضله وفضل حديثه المحب عنّي أمامهم، في يوم من الأيام التقيت الدكتور معجب الزهراني لأول مرة في معرض الرياض للكتاب، حينها بادرني بابتسامة: «انت الزهراني اللي أشغلنا فيه أبو دهمان؟»
لم يكن الراحل القدير أحمد أبو دهمان مجرد روائي لفت أنظار الفرنسيين بروايته اليتيمة، بل كان لمن عرفه تاريخًا يمشي على الأرض، منذ الجلسة الأولى والحوار الأول والضحكات الأولى، رأيت فيه شغفًا بتاريخ بلادنا لم يسبق أن رأيته في شخص، بمجرد أن يتحدث عن وطنه وأرضه وقريته تشعرُ أنه يكتب قصيدة جديدة، شغفه بتاريخ هذه الأرض دفعه في ليلة باريسية باردة لإقامة حفلة خاصة به على شرف اكتشاف معلومة تاريخية عن السعودية بحث عنها لأشهر، كان يقول لي: «لمثل هذه الاكتشافات يطيب الاحتفال»، وعلى ذكر الاحتفالات بالوطن عن بُعد، أسرَّ لي في لحظة صفا يوما ما: «إذا اجتاحني الحنين إلى الوطن.. أخرج إلى سيارتي التي لا أستخدمها في باريس إلا نادرا.. أنعزل عن العالم وأستمع فيها إلى صوت محمد عبده صادحًا»فوق هام السحب«.. أتذكر قريتي التي تسلقت السحب وبلادي التي أحب وإن كانت ثرى.. وأبكي»
لطالما كثر الحديث عن روايته اليتيمة بين محبٍ وناقد، ولطالما انتظرنا وعوده بأعمال أخرى توازي «الحزام»، لكن وبعد مرور هذه السنوات، ومن معرفتي فيه كغيري من محبيه ومريديه، وصلت إلى قناعة بأن العمل الأهم لأبي نبيلة ليس حزامه اليتيم، بل تجربته الحياتية كاملة، يندر أن تسمع لأديب أو شاعر يتكلم عن قريته كما لو كان يكتب نصًا حيًّا أمامك، ينداح بذكرياته الحالمة دون انفصال عن نقد واقعهِ الذي لا يكون جيدًا على الدوام، دون أن يقع في فخ البكائيات التي تملأ صفحات الملاحق الثقافية يومها، منبع تجربته وأساسها ومتنها وهوامشها هو الجمال، لم يكن أحمد أبو دهمان عابرًا في فكرة الجمال الذي يملأ تاريخ هذه البلاد العظيمة التي أفنى معظم حياته في سبر أغوارها وفق طرق ومناهج بحثية عميقة، حتى كان أشبه بعالم أنثروبولوجي غير متوّج، في كل حكاية يقصّها لك من تاريخ الأجداد أو حتى من تاريخ السعودية الحديث، تكتشف حكايات أخرى لا تختص بها منطقته أو قريته التي تحب، بل تشدُّ رحالها إلى كافة جهات السعودية، في أحد أجمل حواراته إن لم يكن أجملها؛ سأله الصديق علي العلياني لماذا عاد إلى الرياض وليس إلى قريته أو منطقته، فأجاب: «الرياض هي الأم لكل مواطن سعودي، عندما أكون في الرياض.. فأنا في القرية، لأن معظم أهل القرية الآن موجودون في الرياض.. لا أظن أن هناك بيتا في السعودية ليس في الرياض.. وأعتقد أن الرياض في كل بيت!»، بمثل هذا الهيام في الحديث عن الرياض كان أبو دهمان يتكلم ويكتب عن تاريخنا وثقافتنا وموسيقانا وأغنياتنا طوال أكثر من أربعين عاما، لذا لم يكن مستغربا حين استيقظ في الخامس والعشرين من مارس 2015 وكتب عبارته الأشهر عند السعوديين: «ليس أعظم من أن تصحو على وطن شجاع!».
في لقاء مباشر جمعت نشرة الرابعة على العربية اثنين من أصدقاء الراحل، الكاتب والأكاديمي د. معجب الزهراني والشاعر والروائي عبدالله ثابت، تحدثا كما يليق بصديقهم «الأغنية».. وبأصوات تشبه كل أصوات أصدقاء أبي نبيلة ومحبيه، لكن نقطةً أثارها الصديق عبدالله ثابت جديرة بأن تتبناها جهة مثل وزارة الثقافة، بإنشاء كرسي علمي يبحث في تجربة أبي دهمان ليس في الكتابة الإبداعية فقط، بل في أبحاثه الأنثروبولوجية التي لم ترَ النور، حينها سنقرأ الراحل كما كان يقرأ بلاده وتاريخها المضيء طوال ثلاثة قرون وهو على قناعة تامّة بأن المطر لا يهطل على قريته بل يصعدُ إليها، كما صعدت روحهُ الجميلة إلى سماء الرياض قبل أيام وهي تمطر بغزارة.


