-A +A
فؤاد مصطفى عزب
أفتح التلفاز أتأمل الشارعين العراقي واللبناني، الغارقين في غضبهما وضجيجهما، الواقفين على نهر جارف من نهر الحياة، الذي يتقاطع فيه الألم مع المسرات، استمع إلى أصوات تمطر صدى لا يتغير أبداً، أضيع، يعصرني الأسى، وأنا أشاهد الجندي العراقي بزيه الكاكي، متشبثاً بسلاحه، راكعاً على الأرض يبكي، يربت على كتفه مواطن مدني، يحاول أن يخفف دموعه بمنديل ورقي يخرجه من جيبه، صورة سينمائية تكاد تنطق من روعة حقيقتها الدقيقة والواقعية، والتي تحيلها إلى لوحة إنسانية وعرض مأساوي، عروض تتوالى تعري الجسد والروح، عروض تنقل المشاهد من حالة الضحك الشديد، إلى حالة من التفكير والتأمل ثم تدفعه إلى البكاء، حالة تكشف الذات البشرية من الداخل، وتفضح تخفيها، وتضعها أمام المشاهد عارية وحقيقية، الظلم والفساد يعري الحقائق المستترة، يكشف الحياة السرية للبلاد، أصبح الفساد شهادة وفضحاً، عندما كتب (البيروفي ماريوفر جاسي يوسا)، رواية (الكتوم)، عالج فكرة الفساد الممنهج، طرحها على شكل رسالة تفيد بضرورة دفع ٥٠٠ دولار شهرياً، كشكل من أشكال (الأتاوة)، التي تدفع عنوة، لكنه رفض مدافعاً عن وجوده وكرامته، حتى لو كلفه ذلك عمره، مستجيباً لوصية أبيه، ألا يترك أحداً يدوس عليه أبداً، وهذا ما فعله الشباب اللبنانيون والعراقيون، بالتظاهر والاحتجاج على الفساد، نزل الجميع للشارع في لحظة انعتاق وخلاص جماعي، سلوك صلب وراسخ كما القلاع الشاهقة، وليسجلوا معاً تاريخاً جديداً للبلاد، ولتستمر معادلة الدم والفساد، غطيت الحقول بجثث القتلى والجرحى من المتظاهرين، بعثرت كالبطاطس، كلها من الشباب، الذين ملوا من فقهاء الظلام وعبيد الملالي، فقدوا الثقة في ساساتهم، حيث أصبحت الثقة بالوناً أفلت من يد البائع، ساسة حولوا البشر من أبناء طبقة متوسطة ومستورة، إلى فقيرة مطحونة، تضع المطبخ خارج الشقة، وتحول الشرفة لحجرة نوم، ساسة علقوا مشاعر الشعب على جدار عام، كلما وقفوا أمامه رجموه، حتى ماتوا جميعاً، وبقوا هم، خرج الشباب إلى الشارع، عندما شعروا أنهم بلا أب، أو أن الأب فاسد، سقطت الثقة بين الحاكم والمحكوم، سقطت عنهم جميعا، «كلهم يعني كلهم، وحتى آخر رضيع فيهم»، وتمردوا عليهم، عندما يصبح كل شيء منهوباً، يصبح التمرد فرض عين ضد الواقع المقيت، تمرد الشباب حتى على حب صوت فيروز، لم يعودوا يستمعون لها؛ لأن صوتها هو الهروب إلى أعلى، صوت فيروز ملائكي، لا إنساني، بمعنى أنه يفتقر إلى وحل البشر، صوت الرومانسية، صوت العاشقين المرفهين، المرتاحين، لا صوت البائسين والفقراء والتعساء، صوت نظيف، ومعقم كمستشفى، هؤلاء يا سادة.. هم «عرب المستقبل»، وعرب المستقبل للذين لا يعيرون اهتماماً لعالم «الكوميك»، هو كتاب اعتبره البعض سطحياً، وهو كتاب عبارة عن رواية مصورة، تخاطب ألا وعي لجيل كامل كتبها «رياض سطوف»، وأتمنى من كل قائد مهتم بأمر الشباب الاطلاع عليها، ليعرف كيف يفكر جيل كامل في مبدأ العدالة الاجتماعية، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، تفتح تياراً جديداً، من الأسئلة بخصوص شباب المستقبل، هذا الشباب، الذي لم يعد يرضى بالجلوس لا في مقاعد المتفرجين، أو حتى مقاعد البدلاء أبدا!

* كاتب سعودي


fouad5azab@gmail.com