-A +A
منى المالكي
لا تعذليه فإن العذل يولعه ** قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه

جاوزت في لومه حداً أضرّ به ** من حيث قدّرت أن اللوم ينفعه


فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً ** من عذله فهو مضنى القلب موجعه

قد كان مضطلعاً بالخطب يحمله ** فضيقت بخطوب الدهر أضلعه

يكفيه من لوعة التشتيت أن له ** من النوى كل يوم ما يروّعه.

بهذا الشجن وهذا الألم العذب أرسل ابن زريق البغدادي، وهو على مشارف بغداد متجهاً إلى الأندلس، قصيدة تتفطر لها الأكباد وجداً وندماً، أرسلها إلى زوجته معتذراً لها بعد أن انكشفت الحقيقة أمامه، ولكن بعد فوات الأوان ! فما هي تلك الحقيقة ؟ ولماذا تأخر في اكتشافها ؟

يحدثنا التاريخ عن رائعة ابن زريق البغدادي في قصيدته اليتيمة، والتي يطلب فيها من زوجته الترفق به عند نصحه الذي تجاوز إلى حد اللوم عن سفره المتكرر وبعده الدائم عنهم، هذا المشهد يتكرر دوماً بين زوج وزوجة، يتكرر بين العاشقين الراحلين دوماً، بين الأصدقاء الذين يستبقونك بجانبهم ويأبى نداء الرحيل إلا أن ينعق تفريقاً بينك وبين من تحب !

ابن زريق شاعر مشهور بقصيدته والتي تعد من عيون الشعر العربي، والغريب أنه لم يعرف بغيرها ! وقامت دراسات نقدية حول هذه القصيدة وحول القصة التي خلقت جواً من الغرابة في درامية المشهد المأساوي مشهد البعد والنوى والفراق ! فكيف شاعر يملك هذه اللغة الشعرية المحلقة ولم يعرف بغير هذه القصيدة !

ابن زريق رجل مسفار، أي كثير السفر والترحال طلباً للرزق، وكان دائماً ما يواجه بتقريع من زوجته الحانية عليه مما تراه من تعب ومشقة عليه، فهو ما إن يعود من سفر حتى يهيئ نفسه لسفر مرتقب، ولم يستمع لتلك النصيحة منها، فذهب إلى الأندلس وسكن في نزل بائس تعيس، وعلم وقتها أن ساعة رحيله قد دنت فكتب قصيدته هذه التي عرفت بعينية ابن زريق البغدادي، وضع بها خلاصة تجربته مع الترحال الدائم وندمه على ملكه الذي أضاع، ويقصد بها تلك الزوجة الحانية المحبة البعيدة عنه هناك في بغداد، بينما هو في الأندلس يشكو الفراق المر، وأي فراق أقسى وأمر من فراق لا لقاء بعده فراق «الموت»، يقول ابن زريق:

رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ

وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ

وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا

شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ

فِي ذِمَّةِ اللَهِ من أَصبَحَت مَنزلَهُ

وَجادَ غَيثٌ عَلى مَغناكَ يُمرِعُهُ

مَن عِندَهُ لِي عَهدٌ لا يُضيّعُهُ

كَما لَهُ عَهدُ صِدقٍ لا أُضَيِّعُهُ.

هذه الرسالة التي تصلنا من ابن زريق هل ستجد لها صدى لدى زوج مسافر دوماً، وصديق عشق الترحال أو قريب «موكل بفضاء الله يذرعه» ؟

* كاتبة سعودية

monaalmaliki@