-A +A
صدقة يحيى فاضل
في خضم المحاولات الجادة لفهم ما يجري بالمنطقة العربية الملتهبة، يمكن استخدام عدة مداخل علمية مناسبة.. تسهل هذا الفهم، وتؤطره، بما يجعله أوضح مضمونا، ويجعل استيعابه أيسر منالا. فللإلمام الأولي بما يجرى من أحداث ووقائع سياسية جسام في المنطقة العربية المضطربة، والمبتلية بعدم الاستقرار المزمن، بسبب «عوامل» تكاد أن تكون معروفة للعامة، قبل الخاصة، يمكن اللجوء لهذه المداخل، منفردة أو مجتمعة. المنطقة العربية – ولا فخر – هي الآن – وبامتياز – أكثر مناطق العالم اضطرابا وعدم استقرار وتخبطا. وما المنطقة فيه من ضعف وتخلف وتشرذم يرد – عادة – إلى العاملين الرئيسين: العامل الذاتي (الداخلي) وأبرز عناصره ومكوناته السلبية هي: الاستبداد السياسي، وسوء تفسير الدين الإسلامي الحنيف (الإسلاموية)، والمذهبية المتطرفة، والطائفية الإقصائية....الخ. أما العامل الخارجي، فيتركز في: عداء التحالف الصهيوني – الإمبريالي لهذه الأمة، وأطماعه في إمكاناتها، وتربصه بها، وتحالفه ضدها، وسعيه لتقويض العروبة والإسلام، بدءا من عقر دارهما.

وهناك، ولا شك، «تداخل» وثيق بين العاملين الداخلي والخارجي. فلولا ذلك الوضع الداخلي العربي الرديء لما تمكن العامل الخارجي من تحقيق أغلب مآربه السلبية في الأرض العربية والإسلامية. والعامل الخارجي نجح (أيما نجاح) في «تسخير» الوضع الداخلي (بكل معطياته) في كثير من البلاد، لخدمة أغراض القوى الخارجية، وتحقيق أهدافها – الواحد تلو الآخر – بسهولة قياسية. فـ«المصالح المشتركة» بين الأطراف المعنية سهلت تعاونهم التام وتحالفهم الوثيق. ذلك جعل كثيرا من الأهداف الخارجية الأجنبية القاتلة تتحقق «بيد المعنيين، لا بيد عمرو»...؟!


****

لنستخدم اليوم «مدخلا» (Approach) منظما مبسطا، يسهل فهم حقيقة ما يجري بهذه المنطقة المضطربة، في خطوطه العامة، إذ نجد أن بالمنطقة العربية الآن تيارين، أو طرفين متناقضين متنافسين.. الأول إيجابي (من وجهة نظر المصالح العليا العربية والإسلامية الصحيحة) ويهدف إلى: العمل على استتباب الأمن والاستقرار بالمنطقة على أسس صحيحة وصلبة، عمادها (كما يجب أن يكون) الحرية والعدالة والمساواة والشورى والتكافل الاجتماعي.. إنه تيار يريد لشعوب هذه الأمة أن تعيش حرة كريمة مستقلة، في أرضها، وأن تتمتع بحقوقها المشروعة، وبإمكاناتها الطبيعية والبشرية، بما يحقق لها الأمن والاستقرار والتقدم والازدهار، ويجعلها أمة عزيزة تحظى بمكانة مرموقة بين أمم الأرض المعاصرة. ويتكون هذا التيار الأول من: غالبية الشعوب العربية (الطرف الأصلي الأهم)، وثلة من النخب العربية المفكرة والنزيهة، وقلة قليلة جدا، ومحدودة، من القيادات المستنيرة المخلصة. ويمكن للمتابع المتفحص الموضوعي المجرد أن يحدد مكونات وعناصر هذا التيار - بالاسم - في كل مرحلة زمنية.

أما التيار أو الطرف الثاني، المضاد للتيار الأول، فهدفه الرئيس سلبي (بالنسبة للمصلحة العليا العربية والإسلامية)... لأنه – ببساطة شديدة – مناقض ومناوئ لكل ما يهدف إليه التيار الأول. فهو يعمل على: تحقيق مآربه السلبية، وإن تطلب ذلك زعزعة أمن واستقرار المنطقة.. أو ضمان «استقرارها» على «الأسس» التي تخدم مصالح الطامعين أولا، والحيلولة بين معظم المنطقة وبين التمتع بالمبادئ الخمسة المبجلة إنسانيا وعالميا، مبادئ الحرية، والعدالة، والمساواة، والشورى، والتكافل الاجتماعي.. حتى لا تنهض، وتقوى، فيصعب إخضاعها واستغلالها، وتسيير الأمور فيها بما يتوافق و«مصالح» أطراف هذا التيار، عبر الهيمنة الكاملة وغير المباشرة عليها.

****

التيار، أو التكتل أو الطرف الثاني لا يريد لهذه الأمة، بالطبع، أن تعيش حرة كريمة مستقلة، في أرضها. ويعمل جاهدا على الهيمنة عليها واستغلال إمكاناتها لصالحه، عبر إضعافها. وأفضل وسائل إضعافها (في حساباته) هي: تخبطها الفكري والعقائدي، ودق إسفين بين مكوناتها، وتقسيمها وشرذمتها، وخلق كيانات ودويلات مهترئة ومتهالكة منها، وعلى أسس طائفية ومذهبية ومصلحية خاصة. إنه يريد السيطرة على المنطقة، ومنعها من النهوض وامتلاك قرارها، وتماهيها مع المشروع الصهيوني، بل ومساهمتها في تحقيقه. ويتكون الطرف الثاني - كما هو معروف - من التحالف الصهيوني – الاستعماري، وأذنابه، ووكلائه، والمتعاونين معه (دول، وجماعات، وأفراد).

وهكذا، نرى أن الطرف الثاني معاد ومعاكس للتيار الأول، ومصطدم معه. ولذا، نشأ هذا الصراع الحاد (الظاهر والخفي) بالأصالة وبالوكالة بين الطرفين، أو الكتلتين الأهم، الذي أحال المنطقة برمتها إلى ساحة صراع كبرى. فمعظم ما يحدث بالمنطقة من نزاعات وقلاقل وحروب ما هي إلا من المعارك والمؤامرات التي لا تنتهي، والتي تدور ضمن الحرب الكبرى الشعواء الممتدة بين هذين التيارين. وهذا الصراع المحتدم يمكن أحيانا أن يرى بالعين المجردة، وغالبا لا بد من «مايكروسكوب» تحليلي لرؤيته، ورؤية تفاصيله، وكشف أبطاله. ولكنه – في كل الأحوال – صراع قابل لأن يكون مرئيا ومسموعا ومقروءا في أغلب مراحله، وعمره الآن حوالي مئة عام.

****

إن العربي المسلم السوي يميل كل الميل – بالطبع – للطرف الأول، ويؤيده، ويرجو له التمكين والنصر. ولكن، الدنيا تؤخذ غلابا، وليس بالتمنيات. ومن المؤسف أن نرى بأن نتيجة هذا الصراع حتى الآن (أكتوبر 2019 م) تميل – بشدة – لصالح التحالف الثاني، لأن الطرف الأول ما زال ضعيفا، بسبب أن أغلب الشعوب المعنية مستكينة، ومتخبطة ومنقسمة، ومحاربة ومحاصرة، بينما الطرف الثاني أقوى ماديا – وبكثير – على الساحتين الإقليمية والعالمية، بل ومعظم الساحة المحلية في غالبية بلاد الكتلة الأولى. ولكن هذه الحرب (بمعاركها التي لا تحصى) لم تحسم نهائيا بعد.. فما زال هناك بصيص أمل خافت أمام التيار أو الطرف الأول. ويظل نهوض هذا التيار، ومضيه في نضاله، وانتصاره ونجاحه في تحقيق أهدافه، أو بعضها، متوقفا على تغلبه على نقاط ومسببات ضعفه (الذاتية)، إضافة لتغلبه على المسبب الخارجي الرهيب..

* كاتب سعودي