-A +A
يحيى الامير
كل شيء يتغير، وتبعاً لذلك يستلزم تغيراً وخطاباً جديداً، وليس من الصواب ترك القضايا للتجاهل، بل لا بد من بناء وعي وخطاب جديد يتخلص من التراكمات السابقة والأحكام الجاهزة التي وضعت إطاراً قديماً ثابتاً يتحكم في النظرة الفقهية إلى كثير من الممارسات والأحداث التي باتت واقعاً وسلوكاً يومياً يمارسه الناس في مختلف المناطق.

بقاء كثير من الأحكام ذات التوجه الواحد القائل بالتحريم مع اتساع نطاق الممارسة الاجتماعية لتلك المسائل لا يعني أننا تجاوزنا خطورة أو هيمنة تلك الأحكام على الوعي العام وإمكانية أن تمثل وسيلة لكل من يريد التشويش على الإيقاع الجديد في الحياة السعودية أو لمن يحمل خطاباً فقهياً وعظياً متشدداً.


سأطرح مثالاً واضحاً على ذلك؛ انطلقت مكائن التشويش في وسائل التواصل الاجتماعي والحسابات الموجهة ومجموعات الواتس نقاشاً وتحريماً للحدث الترفيهي الذي تشهده مدينة جدة الذي اشتمل على نموذج لتمثال الحرية الأمريكي الشهير. بدأت النقاشات كلها تتجه ليكون المعارض هو صاحب الحجة الأقوى لأنه يستند في نقاشه إلى السائد الفقهي والتقليدي في هذه القضية: التماثيل وما في حكمها محرمة شرعاً ولذلك الكثير من التبريرات والمسببات ومن أراد قراءتها يمكنه البحث عن ذلك ليجد عشرات التبريرات التي لا تدور حول سد الذرائع والتشبه بالكفار وغيرها.

هذا نموذج واحد لكثير من المستجدات اليومية في حياتنا لكن الموقف الفقهي منها لا يزال يدور في خانة الرأي القديم الأحادي.

ليست كل الأحكام الفقهية تدور في فلك التنزيل الحكيم، وبعضها تأخذ منه بشكل سطحي لا يصل إلى بناء الدلالات الفعلية للنص القرآني، الأوثان ليست محرمة بنص القرآن الكريم، المحرم هو الرجس من الأوثان.

وردت الأوثان في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم منها اثنان في سورة العنكبوت وهما آيتان لتبيان ضلال من يعبدون الأوثان من دون الله، الموضع الثالث في سورة الحج، قال تعالى: «ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور».

لم تنص الآية على التحريم، وإنما نصت على الاجتناب، ولم تنص على اجتناب الأوثان، وإنما نصت على اجتناب الرجس من الأوثان. ويمكن العودة إلى تنوع معاني كلمة رجس، ولكن ما أميل إليه أن (رجس) تأتي بمعنى الخلط واستخدام الأمر في غير ما هو له، وهذا هو الأقرب للواقع، فالأوثان التي تتم عبادتها أو التبرك بها هي التي يتم اجتنابها. أيضا الاجتناب يكون للأشياء القائمة والموجودة في الحياة اليومية والتي يوصي سبحانه وتعالى أنها متى ما اختلطت وحملت مخالفة واستخدمت لغير ما هي له فعلينا اجتنابها.

لا أتصور أن أحداً يعبد تمثال سعد زغلول في القاهرة أو تمثال بوذا في مطاعم بوذا المنتشرة حول العالم، وبالتالي لا رجس فيها ولا ينطبق عليها الأمر القرآني الكريم بالاجتناب.

هذا مثال لحالة النقاش المنتظرة أن يقوم بها الدرس الفقهي الجديد، ولو عرف الوعي العام مثل هذه الآراء لما أصبح عرضة للتشويش ولأصبح أكثر وعياً وحجة في الرد والتعامل مع من يوظفون الأحكام الفقهية المختلف عليها للتشويش على المجتمع.

امتلاك هذا المستوى من المعرفة من شأنه أن يصالح بين الناس وحياتهم، ومن شأنه أيضاً أن يقفل الباب على أهل التشدد وعلى الذين يسعون باستمرار للتشويش على هذا الإيقاع المتجدد في الحياة السعودية الجديدة.

مثل هذا النقاش يحتاج إليه المجتمع في مختلف القضايا ومثل هذه المعرفة الجديدة من شأنها أن تمثل وعياً جديداً وأن تقطع الطريق على التطرف والتشدد باتجاه حياة مدنية واعتدال حقيقي.

* كاتب سعودي