-A +A
عبدالله صادق دحلان
في أسوأ ظروف سياسية واقتصادية تودع فرنسا العام الميلادي 2018 ولأول مرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وخروج الألمان من فرنسا وانسحاب الدبابات الألمانية من أشهر الشوارع العريقة الفرنسية الشانزليزيه الذي يعتبر الأهم والأغلى والأشهر في فرنسا وأوروبا قاطبة، وهو الشارع الذي يقف فيه النصب التذكاري تمثال الحرية، وعلى طرفه الأخير يطل عليه وعلى باريس برج إيفل الأشهر عالميا، وفي وسط شارع الشانزليزيه تنتشر أشهر المقاهي التي يتمظهر فيها أغنياء العرب في فصل الصيف، ويشاهد العابرون فيه أشهر الأغنياء الخليجيين.

ويحتفل الفرنسيون برأس السنة، وتتجاوز أحيانا أعداد المحتفلين في هذا الشارع في رأس السنة المليون شخص، ويعتبر احتفال رأس السنة الأكبر والأشهر في أوروبا في شارع الشانزليزيه الذي يعيش هذه الأيام أسوأ كارثة لأكبر غضبة شعبية للطبقة دون الوسطى الفرنسية، معبرين عن استيائهم من السياسات الحكومية الاقتصادية والاجتماعية والمطالبة بمزيد من العدالة الاجتماعية وعدم إرهاق الطبقة دون المتوسطة بالضرائب والرسوم التي تؤثر سلبا على انخفاض مستوى المعيشة ودفع الطبقة إلى الطبقات الفقيرة نتيجة توجه الدولة لرفع دخل الميزانية على حساب الشعب، وعلى وجه الخصوص الطبقة دون المتوسطة والفقيرة. ورغم تراجع رئيس الحكومة الفرنسية عن زيادة الرسوم المقررة سابقا على الغاز والمحروقات والكهرباء والتخلي عن فرض معايير تقنية أكثر تشددا بالنسبة للسيارات بعد (السبت الأسود) الذي عاشته باريس وكانت مظاهرة العنف والشغب وتدمير المحلات التجارية وحرقها من مكاتب وسيارات وبنوك وكانت أسوأ سبعة عشر يوما من الاحتجاجات على قرارات الحكومة، مما دفعها للتراجع وإلغاء قراراتها برفع رسوم المحروقات، ورغم تجاوب الحكومة مع المطالب الاحتجاجية إلا أن سقف المطالبات الشعبية ارتفع ووصل إلى المطالبة بتخفيف العبء الضريبي وزيادة الحد الأدنى للأجور ورفع المعاشات التقاعدية وإعادة العمل بضريبة الثروة، والتي ألغتها الحكومة في الخريف الماضي.


إن الاستمرار بهذه الاحتجاجات الصاخبة المدمرة للاقتصاد الفرنسي سوف يحرم فرنسا واقتصادها من موسم احتفالات رأس السنة وسيهدد السياحة الفرنسية التي تنافس بقية الدول الأوروبية، وعلى وجه الخصوص إسبانيا، على استقطاب أكبر عدد من السياح من خارج فرنسا. إن استمرار الفوضى سوف يؤثر على الحركة التجارية والاقتصادية في البلاد، ورغم تحليل البعض للأزمة بأنها خلاف سياسي بين الأحزاب إلا أنني لا أعتقد أنه السبب الرئيسي، وإنما قد يكون المختلفون قد استغلوا الظرف للضغط على خصمهم في الحكم.

وبصفتي أحد المتابعين للشأن الفرنسي لكوني أحد شبه المقيمين على أطراف جنيف في الأرض الفرنسية (مدينة ديفون) الجميلة والتي تعتبر المقر الثاني للعديد من رجال الأعمال الخليجيين، وتكاد تكون مستعمرة خليجية صغيرة على الأرض الفرنسية، إلا أنني وغيري من العرب المقيمين هناك نشعر بقلق كبير من هذه الفوضى الشعبية التي تحولت من مظاهرات سلمية إلى أدوات تخريب ودمار للاقتصاد والممتلكات الخاصة، وهي ثورة الطبقة الأقل من المتوسطة والفقيرة تجاه الحكومة التي لم تراع ظروفها، وأعلم جيدا أن الحكومة لو أرادت استخدام حقها في الإعلان عن حالة الطوارئ لتمكنت من معالجة الموقف لو ازداد سوءا، إلا أن حالة الطوارئ لن تكون في مصلحة الاقتصاد الفرنسي أو الاستثمارات القادمة لفرنسا، وسيكون أثرها على السياحة الفرنسية أكبر.

ولو جاز لي أن أوجه بعض الرسائل للمتظاهرين لقلت إن من مصلحة فرنسا واقتصادها أن يعم السلام والأمان ووقف الفوضى، والمطالبة بالحقوق الشعبية عبر النقابات المهنية والأحزاب السياسية قد يكون هو الحل للوصول للنتيجة التي يتطلعون لها، ولاسيما أن الشعب الفرنسي شعب له ثقافة عالية ومنها ثقافة الأحزاب والنقابات والتمثيل الديموقراطي في البلديات والبرلمان والمجالس السياسية الأخرى، وإن لدى الشعب الفرنسي أرقى وأعلى ثقافة للحوار والتعبير عن الرأي من خلال جميع الوسائل.

وأجزم أن (السبت الأسود) كان كافيا للتعبير وبعنف عن الاستياء الشعبي للسياسات الاقتصادية والتي دفعت الحكومة للتوقف عن فرض المزيد من رسوم الضرائب.

أما رسالتي إلى القائمين على رسم السياسات الاقتصادية، تذكروا البعد الاجتماعي عند فرض أي ضرائب جديدة أو رفع رسوم الخدمات الحكومية أو المبيعات الحكومية الرئيسية مثل المحروقات ورسوم الطاقة.

وكما يقول خبراء المالية والميزانية إن أسهل الطرق لمعالجة العجز في الميزانية (رفع الرسوم وفرض المزيد من الضرائب)، وأنا شخصيا ضد رفع رسوم أو فرض ضرائب جديدة مع ثبات دخل الفرد، متمنيا أن تعود فرنسا إلى أمنها وأمانها وتحتفل بعامها الميلادي الجديد وهي في توافق شعبي حكومي من أجل فرنسا بلد الثقافة الفرنسية، ومن أجلنا نحن محبي فرنسا والمقيمين جزئيا فيها.

* كاتب اقتصادي سعودي