-A +A
فؤاد مصطفى عزب
العودة في اليونانية تعني معاناة الحنين، وهذه المعاناة هي إحدى المشاعر النادرة، التي منحها الله للإنسان، هي لذة سرية، مخرج للا وعي، كأنك تمشي في متجر كبير، وفجأة، تجد نفسك دون توقع أمام حائط، مكسو بمرآة كبيرة، فتتوقف مندهشاً، هذا ما يحدث لنا مع الحنين، نحتفظ بذكريات كثيرة، لا نستعيد كل تلك الذكريات، حتى يصفعك الحنين، كمرآة على سطح حائط كبير، الحنين ينشط الذاكرة، يوقظها، يحركها، هذا هو قانون الذاكرة، تسقط أجزاء كثيرة من حياتنا، تخلص الإنسان مما لا يحب، وتطغى الأشياء التي نحبها على الذاكرة، تظهر على هيئة الحاضر، وتبتلع المشهد، وهذا ما حدث لي وأنا أستقل عربتي تحت منزل المرحوم «عبدالله خياط» بعد أن فرغت من واجب العزاء، ظهر لي وجهه الأسمر، لفَّني المكان بضباب واقعة قديمة من زمان الأجاويد، حاضرة على نحو حميم وحي، أعلمني يومها الحبيب «قينان الغامدي» بتوقف أبي وجدي «عبدالله جفري» عن الكتابة في «عكاظ» احتجاجاً على موقف الرقيب من مقال له، وكان ذلك يحدث كثيراً، من مقالات أبي وجدي النارية، وأنهى مكالمته مالك يا أبا فراس إلا «العمدة»، وكنا نلقب «عبدالله خياط» بذلك اللقب لتاريخه العريض وسنه وصلته بالجميع، اتصلت حينها بأبي زهير ما إن فرغت من مكالمة قينان، لأبلغه بما حدث، سألني ضاحكاً، أين أنت الآن؟ أجبته في المستشفى، فطلب مني أن أحضر إليه في منزله، والذي لم يكن يبعد عن المستشفى كثيراً، وجدت الباب مفتوحاً فلم أحتج إلى أن أطرقه، وهكذا عرفنا باب «العمدة»، أطلق ضحكة بلورية في وجهي وتمتم وهو يرتدي غترته وعقاله، بلهجته الماكرة المغلفة بالبراءة، «ما راح يبطل صاحبك من جنانه»، وكأن أبا زهير على بيِّنة أن دخل أبي وجدي الوحيد من الكتابة، ونحن في العربة اتصل بأبي وجدي وطلب منه أن ينتظره أسفل منزله وهو بكامل ملابسه وأخبره أنه يريد أن يذهب معه إلى مكان ما لأمر ضروري!! ما إن وصلنا حتى أحسست بحجم الدهشة على وجه أبي وجدي، وهو يراني مع أبي زهير، بدا لي أبا وجدي كطفل مذعور، تحدث إليه أبو زهير بنبرة تأنيب، عن توقفه عن الكتابة، تلك النبرة التي لا يجرؤ غيره أن يتحدث بها مع أبي وجدي، كان عبدالله جفري كأجنبي يبذل ما في وسعه لينطق بالكلام، شاحب الوجه ومتلعثم الكلام، غمغمات كانت تنطلق من حنجرته، لم تلبث أن اختفت وهو يحتل المقعد الخلفي من العربة، اتصل أبو زهير بالدكتور هاشم عبده هاشم وكان حينها رئيس تحرير صحيفة عكاظ ومديرها العام، وأبلغه بأنه في الطريق معي ومع أبي وجدي، ما إن وصلنا حتى بدأ الحديث عن أسباب التوقف واحتد النقاش عن موقف الرقابة والرقيب، الأمر الذي أغضب أبا زهير، وأبو زهير عندما يغضب، ينثني جلد جبهته ويتجعد، وتكتسي شفته العليا أخاديد عمودية رفيعة، بينما تقفز التجاعيد لوجهه وذقنه، قال بقسوة، ستعود للكتابة من يوم غد، قالها بقسوة محببة، ابتسم أبو وجدي، خيِّل لي أن ابتسامته كانت حزينة وبريئة، ما جرى بعد ذلك، أخذ الدكتور هاشم عبده هاشم، الرجل الذي صنعته موهبته وعلمه وموقفه، وتوهج مشاعره، يعطي ما يعطي على الرغم منه، يعطيه استجابة لإلحاح روحه ونخوته، استمر يحب طوال حياته على الرغم من أن طبيباً سخيفاً حذره من خطر الحب على دقات قلبه، أخذ يداعب ويمازح أبا وجدي ويكثر من إطرائه ككاتب، واختتم حديثه قائلاً: كنت سأحرجك مع قرائك بنشر مقالات قديمة لك، ولن أوقف مخصصاتك فمروءتي تمنعني أن أفعل ذلك، قالها بنبرته الوقورة، وبجد حزين وصوت يتهدج، امتلأت نفسي غبطة ورضى، رغم ازدحام المشاعر في خاطري، شملت الفرحة كل كياني، حتى أحسست أنني أكاد أطير منها وأنا أسمع أبا وجدي يقول للدكتور هاشم: حاضر سأعود للكتابة من يوم غد، هذه واقعة من زمن الأجاويد، عن أسماء عاشت لغزاً آخر من ألغاز الذاكرة الرحب، الذي كلما تركناه خلفنا، يصبح أشد طغياناً كلما اختفى عزيز من حياتنا، يعلو صوت من العدم، يدعونا إلى العودة، إلى لحظة تصير أغلى، فأغلى، هذا هو ما أعنيه بمعاناة الحنين!!

* كاتب سعودي


fouad5azab@gmail.com