-A +A
ضياء حسون
لاشك أن الحروب غالباً ما تترك آثارا تؤدي إلى تغييرات، إن لم تكن جغرافية، فإنها استراتيجية، وأحيانا الإثنين معا. فعلى سبيل المثال، تركت الحرب العالمية الثانية في أوروبا تغييرات جغرافية كبيرة، عبر تقسيمات واندماجات في خرائط الدول المتحاربة، أما آثار تلك الحرب على المستوى الدولي، فتمثل ببزوغ نجم الولايات المتحدة الأمريكية كقطب دولي كبير، بدأ يرسم السياسات الدولية، وإن كان بمشاركة الاتحاد السوفيتي، كقطب آخر أنتجته نفس الحرب.

وعلى الرغم من انتصارها في تلك الحرب، خسرت أوروبا سيطرتها الدولية لصالح الولايات المتحدة، كون الحرب أنهكتها واستنزفت جل مواردها البشرية والمالية. ولو أمعنا النظر في هذا النصر الذي حققه الحلفاء الأوروبيون على الألمان، لوجدناه نصرا افتراضيا غير حقيقي، ذلك أن ألمانيا تعد جزءا من نفس المنظومة التي سارت خلف راية الولايات المتحدة بعد الحرب، مثلها مثل الدول المنتصرة. أما خسائر الحرب، فقد تقاسمها الجميع، لا فرق بين منتصر ومهزوم.


الحديث يطول عن باقي الحروب الدولية وآثارها على الصعيد العالمي، والانعكاسات المتحققة عنها لصالح الولايات المتحدة. إلا أن الوقوف في وجه المصالح الأمريكية أو محاولة الالتفاف عليها من جانب الزعماء السياسيين، هو أمر محفوف بالمخاطر، إن لم يكن لهؤلاء الزعماء البدائل الناجعة لأي حدث طارئ قد تعمد الولايات المتحدة إلى وضعه لعودة الأمور إلى مسار مصالحها.

هذا الأمر قد ينطبق ودعوة الرئيس الفرنسي إلى وقف الاعتماد على أمريكا وإنشاء جيش أوروبي للدفاع عن أمن أوروبا، من التهديدات الأمريكية والروسية والصينية، وهي دعوة تحمل بين ثناياها تحذيرا من حرب عالمية ثالثة.

فمن كان يمنع حدوث الحرب العالمية الثالثة، هو مجلس الأمن الدولي، والذي أصبح اليوم يعيش حالة الهرم وعدم الجدوى، بعد تفرد الولايات المتحدة بالقرار، بل وصلت الكهولة إلى حلف الناتو، الذي هو الآخر أصبح يتبع البنتاغون، مثله مثل مشاة البحرية الأمريكية.

وتبقى دعوة الرئيس الفرنسي مثار تساؤل فيما إذا كانت مبنية على إستراتيجية، أم كردة فعل على التفرد الأمريكي في القرارات التي تمس الأمن الأوروبي. فإذا كان الموضوع مبنيا على إستراتيجية جديدة، فهل وضع الرئيس الفرنسي في خلده التغلغل المخابراتي الأمريكي في جميع مفاصل المؤسسات الأوروبية؟ وهل ضمن ماكرون التوافق الأوروبي على مشروعه، مع وجود دولة مثل المملكة المتحدة التي لا تخرج عن أي وجهة نظر أمريكا قيد أنملة؟ الكثير من الأسئلة تطرح مع دعوة ماكرون إلى إنشاء جيش أوروبي، يجب الإجابة عنها، فيما لو صحت دعوته هذه طبعا. فهل هو مستعد لكافة السيناريوهات الأمريكية القادمة؟ وهل يستطيع تجاوز العقدة الروسية لديه أو لدى أوروبا، والإقرار بروسيا كدولة لا ضمان لأمن أوروبا إلا بإشراكها بحفظه؟

وبكل الأحوال، فإن فكرة ماكرون بالابتعاد عن الولايات المتحدة في حفظ أمن أوروبا، لهي فكرة جريئة من زعيم قد تكون دولته أول لقمة لأي اضطراب أمني قد يعصف بالقارة العجوز، كون البنية الاجتماعية لفرنسا متخلخلة بفعل الهجرة الكبيرة التي تعرضت لها، وما أحداث الإرهاب التي شهدتها باريس في العام ٢٠١٥، إلا خير دليل على هشاشة وضعها الأمني.

أوروبا مقبلة على حرب مخابراتية عالمية، أنا هكذا أرى من خلال دعوة ماكرون، فإذا يتم حاليا إضعاف روسيا على المستوى الاقتصادي بواسطة حزم العقوبات، فأوروبا سيكون نصيبها الاضطرابات الأمنية، وسيكون اتحادها مفككا ومنقسما بين معسكر شرقي وآخر غربي، كما هو الحال إبان الحرب الباردة. فخطر اليمين المتطرف بات يلوح في أفق السياسة الأوروبية، وصعودهم يعني خلق التوترات في المجتمعات، يقابله صعود تيارات اشتراكية في جهات أخرى، ليس من باب عودة الشيوعية، وإنما كرد فعل على الطرف الآخر.

وليس لأوروبا من معين إلا بإشراك الروس فعليا بأمنها، نظرا لما تمتلكه موسكو من جهاز مخابراتي يضاهي السي أي إيه، إن لم يكن يتفوق عليه، خصوصاً في الجانب التكنولوجي، الذي سيكون عماد حروب المستقبل. وبإشراك الروس في أمنها، يمكن لأوروبا الذهاب قدماً بمشروعها الدفاعي، بعيدا عن أمريكا، على أن تضع في حسابها، أنها خسرت الولايات المتحدة كصديق، وكسبتها عدوا.

ينشر هذا المقال بالتزامن مع «سبوتنيك عربي»