-A +A
فؤاد مصطفى عزب
صباح العيد، نور صباح جديد، وشمس جديدة، جمال خلاب، نور النهار مرسل فوق القباب، يضيء ستائر الكعبة، التكبير والتهليل يعلن عن مقدم العيد، نسائم تسافر بين المصلين، الصباح مدهون بالفرح، صباح مدفون في صدري، هذا وصف صباح العيد في مكة، حيث وجوه الصبا الورف ودفء العوائل الحار، من يفوته صباح كهذا كأنما نسي طفولته برمتها ولم يعد له منها شيء، تنتهي الصلاة، أسير خارج المسجد الحرام، أسير كأن أحداً يضع كفه على صدري ويسحبني لباب «مقبرة المعلاء» باب من يدفن فيه لا يعود، حيث كان للغياب أن يكون، بابا مفتوحا على قلبي، أحاسيس محجوبة خلف ستار وجهي الدامع، حزنا مطوي الجناح، ألوذ بصور فوتوغرافية منقوشة في خيالي كوشم، طيبة، حنونة علي، صورة أمي وأبي، نسيان ملامحهما هو نسيان لنفسي، دمعة تهدم حصن الرجولة، تنفلت من عيني، في كل عيد أنفرد بقبري أمي وأبي، أكون أول المعيدين، ألقي عليهما السلام، وأقف أمامهما كطفل يتيم صامت هزمه الزمان، أحس بدقات قلبي تتصاعد إلى حلقي حتى يصبح دخول الهواء إلى صدري عسيراً، أتمتم وأنا أدخل بوابة المقبرة، لا أحد يسمعني غير السميع العليم، أتثبت بلا حراك مدة من الزمن، مثبتاً نظري على القبرين، الذكرى تمضي إلى قلبي، تصنع مكانا فسيحاً، تشرع في تكديس كل اللحظات الحلوة التي أمضيتها معهما، أعيش بها وأنا أقف هناك، تراتيل الشوق تنقر طبلة قلبي، تستعرض أجمل اللحظات، صور متفرقة تجري في عقلي كقافلة غزاها قطاع الفرح، تنهمر الدموع على خدي تلقائيا، مباركة هدوئي الصاخب، ذلك الذي يخفي كماً من المشاعر لا قدرة لقلب على تحملها، أطلقت العنان لدموع قلبي، وأنا أدعو لهما، لا شيء مثل الفقد، يهزم الإنسان، يأخذ منه الكثير ولا يترك له سوى الذكريات القاسية، الفقد لا يمنحنا سوى رائحة غياب آخر، أتم زيارتي وأرضي من أمرني الله أن أرضي، أنتقل من دار البقاء إلى دار الواقع، ما كدت أصل بوابة المقبرة حتى لمحت امرأة هي غابة من الحزن، كانت تتوسل حارس المقبرة، تقول له كلمات تسمع بالقلوب «دعني أزور قبر ابني لا حرمك الله من أبنائك» كانت تبكي بحرقة من لا يملك غير ذلك، والحارس يمارس فن الاستماع والصمت وليس على لسانه من عبارة غير «أنا أنفذ التعليمات يا أختي» كانت تعاتبه بنبرة لا تخلو من حنو وعيناها مغرورقتان بالدموع تقول له «لو كنت أختك ألا تسمح لها بزيارة من كان يقول لك يا خالي» وبغضب ويأس صمتت بعد أن أبى كبرياؤها أن يستجدي الحارس أكثر وأن تبوح بضعفها وحاجتها للقرب من القبر، ثم افترشت سجادة كانت تحملها أمام بوابة المقبرة وجلست عند أقدام المارة، كانت تنظر في وجوه الزائرين راجية المساعدة، علها تجد معيناً، حاولت أن أبلع ريقي والذي لم أكن أجده في حلقي، سكت برهة وأنا أحملق في وجه الحارس المتصلب، وأستجمع شتات ذهني، ألقي عينا على المكان من حولي، أمعن في المكلومة التي تحالف عليها الفقد والتشدد، ونظرة الاستجداء والتضرع في عينيها لتمارس حقاً مارسه كل منا، تقدم أحدهم من الحارس قائلا «من قال لك إن زيارة النساء للقبور حرام، هذا واقع أنتجته الظروف، ولا يحس بمحنته إلا الممتحن، والتفت للمرأة الجالسة على الأرض قائلا لا يصح إلا الصحيح يا أختي» ومضى كغيره، سمعت صوتها الشبيه بالأنين وعين تتبع الرجل متسائلة..«سمحوا لنا بقيادة العربات، متى يسمح لنا بزيارة موتانا» ساد الصمت، وكفت الألسن عن الحديث، وظل السؤال منتصباً.. متى؟

fouad5azab@gmail.com