-A +A
أنمار مطاوع
لا تحتاج المجتمعات إلى فيلسوف أو حكيم ليقول لها إن «الانضباط» هو الأكسير الذي يصنع الحضارة أو يعيدها إلى صباها أو يضمن استمرارها.

الانضباط اصطلاحا يعني: الالتزام بالتعليمات والأنظمة، والتدرّب على سلوك تحدده قواعد ثابتة، وتحييد الأهواء والميولات الشخصية أو الجماعية المجردة وعدم الانسياق وراءها.


من دون الانضباط يصبح الفرد خارجا عن النظام، يسير حسب الأهواء والميولات.. وربما النزوات. فيصبح مغرقا في التوافه الذاتية على حساب عموم المجتمع.

لكن يمكن المجادلة بأن الانضباط الكامل في مجتمع يغلب عليه عدم الانضباط يعتبر «مشروع حادث» في حد ذاته. على سبيل المثال، من يقف عند إشارة «قف» التي يضعها المرور عند كل تقاطع، هو في الواقع التنفيذي يُعرّض نفسه لحادث تصادم من الخلف، فالفكرة السائدة أن إشارة «قف» لا يقف عندها أحد. هل هذا يعني أن ينفلت السائق من كل الأنظمة بحجة عدم القدرة على تطبيق بعضها؟ بالتأكيد لا، ولكنه يعني أن الانضباط يصبح أكثر قابلية للتطبيق عندما يكون ظاهرة اجتماعية عامة.

يروي أحد الآباء أن ابنه في المرحلة المتوسطة كان يتعرض للتنمر من أحد زملائه في المدرسة. وأنه قدم عدة شكاوى لمدير المدرسة ووكيلها والمشرف الاجتماعي فيها، إلا أن كل تلك الشكاوى لم تؤخذ بمحمل الجد -نظرا لانتشار الظاهرة وعدم قدرة الإدارة المدرسية على رصدها أو متابعتها أو حتى معالجتها- كما قال له أحد المعلمين. وظل ابنه يعاني من تنمر ذلك الزميل إلى اليوم الذي تم استدعاء هذا الأب لمكتب المدير. عند حضوره علم أن ابنه ضرب أحد التلاميذ ضربا مبرحا. تم أخذ تعهد من الأب بأن لا يتعرض ابنه لذلك الطالب مرة أخرى. توقف التنمر تماما.. لأن الطالب المضروب كان هو ذاته المتنمر. انضباط الطالب والتزام الأب بالقوانين والأنظمة كان مشروع حادث يومي، لكن التعامل مع الأمر كما يفرضه الواقع أعاد الأمور إلى نصابها.. أو -للأسف- هذا ما يبدو.

صحيح أنه يجب التوفيق بين الانضباط والأعراف أو القواعد الشعبية السائدة حتى لا يكون الانضباط مشروع حادث أو مؤشر معضلة أو بوادر أزمة.. ولكن، لا يُفترض أن تتوقف محاولات تحقيق الانضباط الفردي والجماعي، ولو تم التنازل أو تأجيل بعض الانضباط في بعض السلوكيات.. «لا يجب التخلي أو التنازل عن تطبيق الكل».