-A +A
غسان بادكوك
تعتبر الثقة المتبادلة من أبرز الخصائص التي تميّز العلاقة بين القيادة والشعب في المملكة، وهي علاقة راسخة وغير قابلة للمزايدة ولا مرتبطة بمنافع آنية، وقد تجلى التلاحم العميق بين المواطنين وقيادتهم في مواقف عديدة سابقة، شهدت فيها البلاد تحديات جسيمة؛ مالية وعسكرية وأمنية، قبل أن تتغلب عليها وتخرج منها - بفضل الله أولا- ثم بحكمة ولاة أمرنا، أقوى مما كانت عليه، لذلك لا ينبغي التهويل من تعبير بعض المواطنين عن انزعاجهم من القرارات الأخيرة، المتعلقة بوقف البدلات وتجميد الزيادات؛ لأن ذلك رد فعل طبيعي ومتوقع كون القرارات أثرت على معيشة بعض فئات المجتمع؛ بعد سنوات من رغد العيش الذي لم تكن تكدره رسوم عالية ولا تعرفات مضاعفة؛ ناهيك عن انخفاض الرواتب نتيجة لوقف البدلات.

والأكيد هو أن المواطنين بمواقفهم المؤيدة لسياسات الدولة ومساندتهم لتوجهات رؤية 2030، قد جددوا -ضمنيا- بيعتهم وولاءهم لقيادتنا الرشيدة، إلا أن بعضهم لم يستطيعوا إخفاء ضيقهم وقلقهم من بيروقراطية الأجهزة التنفيذية المسؤولة عن التمهيد لاتخاذ القرارات الأخيرة وفي مقدمتها وزارة الخدمة المدنية التي اقترحت التصورات الخاصة بالقرارات الأخيرة، حدث ذلك رغم أن العبء المالي الضخم الذي تتحمله الميزانية كمخصصات لموظفي الحكومة لم يكن بسبب ارتفاع رواتب موظفيها وإنما يعود أساسا لارتفاع عدد أولئك الموظفين، وضعف إنتاجية غالبيتهم؛ وهو خطأ مزمن نجم عن تقصير (الخدمة المدنية) طوال عقود في معالجة الخلل، وما فاقم من سوء الوضع، الاستمرار في توظيف المزيد سنويا لتأدية أعمال يمكن إنجازها بنصف عدد الموظفين الحالي؛ وربما أقل!.


وفي تقديري فإن القرارات الأخيرة وإن كانت ستسهم في خفض نفقات الباب الأول من الميزانية، إلا أن أثرها لن يكفي لعلاج عجز الميزانية؛ لأن مخصصات الرواتب والأجور استأثرت على 52% من إيرادات الدولة عام 2015، لذلك فإن الحد من تضخم مصروفات ذلك البند يتطلب معالجة أساس المشكلة عبر تخفيض العدد المتضخم للموظفين الحكوميين البالغ حاليا نحو 3.2 مليون موظف مدني وعسكري؛ وهو عدد كبير قياسا لعدد المواطنين الذي يناهز الـ20 مليونا؛ شريطة أن يتم التخفيض تدريجيا وبقدر يساوي أعداد المتقاعدين سنويا؛ وهم بعشرات الألوف، ولكن تحقيق ذلك يتطلب ما يلي:

1. الالتزام الصارم بتقنين التعيينات (إلا في الضرورة القصوى) لبضع سنوات، وليس فقط حتى نهاية العام المالي؛ كما نصت على ذلك القرارات الأخيرة.

2. الاستعاضة عن تجميد التوظيف الحكومي بحفز خلق الوظائف في القطاع الخاص من خلال حفز النمو الاقتصادي باستئناف السياسة المالية التوسعية على المشاريع؛ من الاحتياطات المالية الكبيرة، مع التعجيل بدفع المستخلصات المتأخرة.

3. الإسراع في تطبيق سياسات موارد بشرية تكفل رفع إنتاجية موظفي الدولة وتربط تقدمهم المهني وزياداتهم السنوية ومزاياهم، بمستويات أدائهم ونتائج تقييمهم كل عام.

وفي حين أن أهم أهداف رؤية 2030 هو تنويع مصادر الدخل وحفز النمو الاقتصادي، فإن السياسة المالية الانكماشية الحالية ربما لن تساعد كثيرا في تحقيق تلك الأهداف بالشكل المأمول؛ وإن نجحت في تحقيق بعض الترشيد، خصوصا أن وقف البدلات وتجميد الزيادات يعني عمليا إضعاف القوة الشرائية للأفراد وعدم جاذبية الاستثمار للشركات.

وبعيدا عن محاولات التأليب الرخيصة، التي دأبت بعض الأقلام الخارجية المأجورة، أو حتى المحسوبة علينا، على نشرها عبر وسائل التواصل بهدف تعكير العلاقة الراسخة بين السعوديين وقيادتهم، فإن حزمة القرارات الأخيرة أثارت فضول المواطنين للحصول على إجابات على بعض تساؤلاتهم الحائرة التي قد يكون من المهم أخذها في عين الاعتبار ومنها:

1. ألم يكن بمقدور (الخدمة المدنية) تأجيل الرفع بتلك القرارات لحين الانتهاء من إطلاق برامج دعم ذوي الدخل المحدود التي تمت الإشارة إليها في وثيقة الرؤية الوطنية.

2. لماذا لم تقترح الوزارات المعنية استثناء أصحاب الدخول المنخفضة من قرارات إلغاء البدلات؛ خصوصا الذين تقل رواتبهم عن مستوى حد الكفاية وهو 9000 ريال تقريبا؛ حسب دراسة جامعة الملك خالد؟.

3. ماهي الإجراءات والمخصصات الأخرى التي كان بإمكان الأجهزة التنفيذية اقتراحها كبديل لوقف البدلات وتجميد العلاوات؛ أو على الأقل تأجيل الإعلان عنها بعض الوقت؟.

4. هل تم إخضاع تلك القرارات لحساب العائد والتكلفة؟ وماهو أثرها المالي على الميزانية العامة للدولة؛ بالأرقام؟ وهل الوفر الذي ستحققه يتناسب مع طبيعة وحجم تأثيرها على المواطنين والاقتصاد؟.

5. هل تم التحسُّب لنتائج تلك القرارات على المنظومة البنكية وسوق المال والعرض النقدي؟.

6. كيف يمكن التمهيد مستقبلا لقرارات مشابهة - قبل اتخاذها- ليعرف الناس جدواهاعلى المديين المتوسط والبعيد، ويستعدوا للتأقلم معها في ظل الالتزامات المالية المتعددة التي لا تكاد تخلو منها أسرة أو فرد؟.

7. هل كان من المفيد عرض مثل تلك القرارات على مجلس الشورى لمناقشتها وإبداء الرأي بشأنها؛ قبل الإعلان عنها؟.

8. لماذا لم يبادر المسؤولون المعنيون فور صدور القرارات الأخيرة، لشرح أبعادها للمواطنين، وتفسير ما استشكل عليهم فهمه منها، والتوجيه المسبق لباقي الأجهزة الحكومية للتخفيف من تأثير القرارات على المواطنين، بدلا عن معرفة تأثيرها من بعض وسائل الإعلام الدولي كوكالة بلومبيرغ؟.

والأكيد هو أن الهدف من طرح التساؤلات السابقة هو مساعدة بعض التنفيذيين الحكوميين على رؤية الصورة واضحة؛ بدون رتوش، ومحاولة فهم الكيفية التي يفكر بها المواطنون بشأن قرارات متتالية تتقاطع مع مصالحهم وتؤثر على معيشتهم، حتى وإن كانت لن تؤثر على ولائهم لقيادتهم وإخلاصهم لبلادهم، خصوصا أن الدولة لم تبخل عليهم في أوقات الرخاء، ويكفي أنها نجحت باقتدار في الحفاظ على الأمنين الداخلي والخارجي؛ رغم عظم المخاطر المحدقة بالمنطقة، وربما نحتاج الآن لإجراءات من نوع آخر، تستهدف الارتقاء بأداء المرافق العامة، وتفكيك منظومة احتكار العديد من السلع والخدمات؛ خصوصا الرئيسية منها، وتقديم الفاسدين للعدالة.