أعدُّ نفسي محظوظةً، بأصدقاء هم الحياة، بمعناها الفنّي والثقافي، والمعرفي، والاجتماعي، وما أكبر حظوظ من وجد في صديقٍ مُعظم ما يبحث عنه، وما يحتاج إليه، من إنسانية ومهارات، وتجربة حياة، ودهاء أحياناً، يمنح قدرةً على فهم واقعك، والتعبير عنه، وتجاوز أو تفادي الفخاخ والكمائن، بحذر غير مُحبط، وتفاؤل غير مُفرِط، وأجمل ما يُكتسب من خبرات، ما أتى بطريقة غير مباشرة، من مدرسة الحياة، لا مدرسة المُقررات.
هناك شموس تطلُّ علينا دون ارتباطها بنهار، ومصابيح تضيء الدروب وإن لم نكن في حالك الظُّلمة، وغيث يهمي دون علاقة كهرومغناطيسيّة بغيم، ولُغة تترتّل لا صلة لها بالمعاجم ولا القواميس، تبني مداميك لحساسية الشعور والتعبير، وتمدّ الحكايات بالحيوية والطاقة؛ وتُعين الأسلوب على الانتقال من القصّ إلى القصيدة والنقد الساخر، ثم إعادة بناء الحبكة بسياق مختلف في مفتتحه ومختتمه.
أكتب عن أستاذي وشيخي عبدالرزاق بن صالح المذّي الغامدي، مُلْهِم سردياتي؛ ومؤسس البنية التحتية في وعيي، ليكون جاهزاً لمواجهة ما يُتوقّع وما لا يُتوقّع، ومجابهة خبايا الزوايا، والنوايا العمياء، وتزويدي بوصايا؛ تخفف سأم الصيف، وملل الشتاء، وتحفّز الذاكرة على الحكي وتوظيفه دون استثارة ردود أفعال، من يُسقطون ما نكتب على أنفسهم بسوء طويّة.
رحل بالأمس أبو مشعل، وبمجرد تلقي الآدمي نبأ رحيل شخص عزيز عليه، تتسمّر الحركة في مكانها، وتتخشّبُ الكلمات على لسانها، وتتحجر الدموع في عين موعود بمصادفة تُخضّرُ فيافي الروح، وتتوالى وتتولّد الذكريات؛ والذكريات جسرنا إلى نقاء المطلع، وصفاء الينابيع، وكأننا عندما نتذكّر، نقاوم شبح الرحيل، ووجع الفقد.
عندما انتقلتُ من ابتدائية بشير، إلى معهد الباحة العلمي، عبرتُ من قريةٍ إلى مدينة، ومن مؤسسة حميمة إلى شركة تعج بالملامح والأطياف، فاتسعت دائرة المعارف والعلاقات، وكان للمشايخ الأساتذة هيبة تبلغ بنا الرهبة، ولكل أستاذ طبيعته، وشخصيته التي يتعامل بها، وربما تتشابه طريقة المُدرسّين في التدريس والتعامل مع الطلاب، إلا أنّ (أبا مشعل) كان نموذجاً مختلفاً.
وبالطبع بحكم تجاور القرى، والعلاقات بين رموزها، كان يعرفُ والدي، وبينهما -عليهما رحمة الله- علاقة وديّة وطيدة، وإن كنتُ لستُ ممن يعتمدُ على نسبه؛ بل على عمله ومكتسبه، نشأتْ بين طالب وأستاذه مودّة أدبيّة، فأسلوب الشرح، وتوظيف البيئة في الدرس، وتطعيم الفصيح بالمثل والقصة وبيت الشّعر باللغة المحكيّة، والإيماءات الحركيّة، كل ذلك جذّر وشائج القُربى والصداقة بين شيخ ومُريد.
أعوام مضت، وعادت بي الأيام، إلى المعهد مُعلّماً، وبرغم اجتياح الصحوة لشيء من مشاعرنا، وأغواء الدروب عن الوطن الحبيب، إلا أنّ (أبا مشعل) لم يرفع يده عن قداسة ما بناه في ستة أعوام، ولم يكبت طموح تغيير العالم!، فعزّز صلتي بأساتذة هم في نفس الوقت زملاء، ونعم الزملاء؛ فدرستُ على أخلاقهم ومواقفهم ما حمى إنسانيتي من عواقب اللوثات؛ وعندما يقع (أبو مشعل) على زلّة أو شطحة مني، يقول لي بلهجته المُحببة (يا ولد خلّك رجّال) وإن تكررت وكثيراً ما هي، يصعّد اللغة والعتب قائلاً (شُفْ الحمار) ولا أجد غضاضة ولا تذمّرا مما نعتني به، بل أشعرُ بأبوّة حانية، دون وِصايةٍ جانية.
بالطبع مرّت بنا أحوال وظروف، عكّرتْ نهر مودتنا، وسرعان ما زالت، وعاد النهرُ إلى صفائه، وقَرُبتُ من شيخي مجدّداً، فعرفتُ فيه العابد، السخيّ، الوفيّ، الحريص على صدقة السرّ، المتعلق بذِكْر الله، الدائم السؤال عن الأصدقاء والزملاء، وكانت ظهيرة يوم الجمعة، التي ألتقي به في منزله، مصدر طمأنينة لقلبي، ففيها وبها امتداد وجداني؛ إلى جناب الأب، والأخ الأكبر، والمُعلّم المُغذّي سرديّاتي بإلهامه؛ الذي أرجو ألا ينقطع، وإن كان مُلْهِمي في دار الحق.


