-A +A
عبده خال
مع الدقات الأولى المفسحة لبدء فتح الستار عن مسرحية (تشارلي شابلن) تجد نفسك معلقاً بالانبهار، انبهار الديكورات المتخذة حيزاً مصغراً داخل خشبة المسرح، في حركية دائبة تتناسب مع مشهدية الحدث، وتتعلق بتوزيع الإضاءة وتشكلاتها، والموسيقى وبتنوع مقاماتها للمشهد الواحد، وتتعلق بأزياء الممثلين المنتمية لكل فترة زمنية كانت عليه الأزياء، وتتسمر مع انثيال اللغة في مسرحية آمنت بالحلم، والجنون، هاتان التيمتان جدلت بهما اللغة المسرحية في ترنيمة موسيقية خالقة حالات الإبهار.. لشخصية (شابلن) الجدلية والتي كان لها الصدى العالمي في كل ما قدمه من فن سينمائي كأول قاطرة تتعهد بقيادة العالم السينمائي إلى رحلة فاتنة تخترق المكتوب إلى عالم المرئي ولتأسيس وجدولة الفن السابع، ذلك العالم المتسع لاستيعاب وهضم بقية الفنون

(العمارة والموسيقى والرسم والنحت والشعر والرقص)


وإن كنت - أنت أيها القارئ- تعرف شابلن من خلال شخصيته المثبتة في الأذهان، أو من خلال صمته، أو من خلال زيه وشكله المألوف بعصاته وشنبه، وردائه، فإن كل ذلك سوف ينمو في المسرحية داخل شخصية اعترك بداخلها الجنون والحلم ليصل بأدواته الذاتية نحو الإنسان في قيمته الإنسانية تعبيراً وجودياً، حين تنقل بين الصمت والبوح لإثبات القيمة الإنسانية في تعدد صورها وظروفها.

في مسرحية شابلن كان هناك حوار متقن بين الموسيقى والشعر والإضاءة والأزياء، وتحركات الممثلين، وكل جزئية من تلك الأجزاء المتقنة الأداء كان خلفها مخرج نابه (أحمد البوهي) وظف كل شيء لخلق مسرحية ساحرة.. حيث جعل كل أداة من الأدوات المتواجدة على خشبة المسرح تمثل لحناً في سيمفونية رائعة أظهرت جمال الآلات المتناغمة في العزف.

وليست مبالغة لو قلت إن مسرحية (شابلن) قفزت بالمسرح العربي إلى درجة متقدمة في الأداء والروعة..

ومنذ البدء وتوالي المشاهد كان الحلم يتشكل بضجيجه ليصنع حياة.

وإن كنت أتحفظ على دراج الشخصيات التاريخية في الأعمال الفنية كونها تضيق مساحة الخيال وإجبار المبدع على تتبع خطوات الشخصية المثبتة تاريخياً إلا أن المخرج البهي (أحمد البوهي) استطاع توسيع الخيال متغلباً على الأحداث الشخصية وإن لم يفرط بالمفاصل التاريخية لشخصية شابلن، فانبثقت كل الأقدار التي كان الصمت سيداً لها، فشخصية شابلن الصامتة كانت بؤرة لتفتق أقدار لم يكن الإفصاح عنها قادراً على تحملها.. وهنا نشأت فلسفة الصمت والمنطوق، وما بينهما، فالصمت حالة رفض وحين تطالب الصامت بالإفصاح يكون مدعاة لتكوين أقدار كانت ساكنة، ليصبح التأكيد أن وجود الإنسان بين شفتيه، لذا أي رعب يحمله الصمت، وأي رعب يحمله النطق عندما يأتي من خلف الصمت؟

مسرحية (شابلن) تتسع بكل الجماليات التي يصبح مكنون الحديث عنها في مقالة سيارة بخس لحقّها، إلا أن جمالها يغري بالإشارة إليها، ويغري بتقديم كل من أسهم في إخراج جماليات المسرحية، وللأمانة فإن الدكتور مدحت العدل عمق فلسفة الوجود عند شابلن من خلال أشعاره وحواراته، فمن البدء كانت وصية الأم لابنها: لا تبع فنك ببلاش.

هذه الجملة غير المهادنة عن القيمة والذات هي المحور الأول للوجود، فتثمينك لفنك هو العظمة الأولى لما تبدع.

وإن كان علي المرور بكل من صنع ذلك الجمال فلن أستطيع، ومع ذلك كان بطل المسرحية (محمد فهيم) المقدرة المذهلة لتجسيد شابلن، ليس التجسيد الشكلي فقط وإنما تجسيد الروح، وتقلباتها مع زمنها، والجميل في المسرحية تقديم عشرات الوجوه الشابة، أي أن المخرج لم يرد جذب الجمهور لمشاهدة مسرحية من أجل النجم أو السوبر، كل الشخصيات شابة وقادرة وطموحة.. ولأن الشعر صنو اللحن استطاع الموسيقار إيهاب عبدالواحد التنوع في خلق جماليات كل مشهد ليس لمرة واحدة وإنما قدم خمسة ألحان للمشهد الواحد، وأي مقدرة لحنية أن تلحن خمسة ألحان لمشهد واحد..

أعرف أني أظلم المسرحية ومن عمل بها من خلال هذا الابتسار لكن كما قلت هي مقالة كتلويحة تحية لكل ذلك الجمال.. واستكمل التحية لريم العدل، وأحمد الشيوني، وعماد إسماعيل، وداليا الجندي، ولكل من شارك في هذا العمل الأخاذ، وأجدني موضحاً أن هذا الجمال (مسرحية شابلن) أول عرض لها كان في مدينة الرياض، وليس غريباً أن تتحول الرياض إلى إشعاع فني وثقافي كمصدر لخلق الجمال.