-A +A
محمد مفتي
على مدار التاريخ، اتخذت الحروب بين الدول صوراً وطرقاً متباينة، منها ما هو عسكري بحت ومنها ما هو سياسي واقتصادي ومنها ما هو إعلامي، ومؤخراً باتت الحروب بالوكالة طريقة شائعة لاندلاع الحروب بطريقة غير مباشرة بين الدول، ومن المؤكد أن الحروب والصراعات -ولا سيما في الوقت الراهن- ليست عسكرية فحسب، بل هي حروب تقنية في المقام الأول والأخير، ذلك لأن التقنية العسكرية قادرة على حسم المعركة لصالح الطرف الذي يحوزها دون التسبب في حدوث خسائر بشرية، وفي واقع الأمر فإن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي -سابقاً وروسيا حالياً- ساهمت في تسارع وتيرة التصنيع العسكري بين المعسكرين، حتى أصبح كل معسكر منهما يملك من التقنية ما يفوق حاجته لحماية حدوده.

مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية ودخولها للعام الثاني، يتساءل الكثيرون عن توقيت انتهاء هذه الحرب التي دخلت مرحلة استنزاف كلا الطرفين، فتلك الحرب تبدو بلا سبب واضح أو مبرر، كما أن كلا الدولتين على ما يبدو لم تحقق أيّاً من أهدافها التي حددتها مسبقاً قبل اندلاع الحرب، غير أن ما يمكن استخلاصه الآن من أحداث الحرب المندلعة بشراسة حتى لحظة كتابة السطور في تلك البقعة الملتهبة من العالم، هو أن الدول الغربية فقط هي من حققت هدفها الجوهري؛ وهو استنزاف روسيا وإنهاك اقتصادها واستهلاك آلتها العسكرية وتشويه صورتها كقوة عظمى.


يصنف الكثير من المحللين السياسيين الحرب الدائرة الآن بين روسيا وأوكرانيا بأنها حرب بالوكالة؛ حيث يدعم الغرب بقيادة الولايات المتحدة أوكرانيا ويمدها بالكثير من الأسلحة المتطورة، والتي لولاها لما استطاعت أوكرانيا الصمود كل هذه الفترة أمام الآلة العسكرية الروسية المتقدمة، غير أنه ما بين كل فترة وأخرى ترفض الدول الغربية تزويد أوكرانيا ببعض الأسلحة التي تطلبها، ولعل آخرها رفض الإدارة الأمريكية تزويد أوكرانيا بمقاتلات إف 16 رغم تكرار طلبها المرة تلو الأخرى، ومن المرجح أن لهذا الرفض من الجانب الأمريكي العديد من الأسباب، والتي لا تتضمن بحال من الأحوال الرغبة في تهدئة وتيرة الحرب أو منع الصراع من الاحتداد على نحو يتجاوز الحد المقبول.

من الواضح أن الولايات المتحدة تخشى الدخول في حرب مباشرة مع روسيا، نظراً لكون الجيش الأوكراني غير قادر على استخدام هذه الطائرات، وبالتالي فتزويد أوكرانيا بها يضع سمعتها العسكرية على المحك، غير أن أهم سبب قد يدفع الولايات المتحدة لرفض تزويد أوكرانيا بمثل هذا النوع من السلاح هو خوفها من أن تقع هذه المقاتلات في يد الجيش الروسي في حالة خسارة أوكرانيا لها، وبالتالي يتم إفشاء أسرارها العسكرية بالغة السرية لعدوها التاريخي اللدود، وما يؤكد هذا التفسير هو حرص الولايات المتحدة على تدمير أي تقنية عسكرية تقع خارج حدودها، فعلى سبيل المثال أثناء عملية اغتيال زعيم القاعدة أسامة بن لادن في باكستان تعطلت إحدى الطائرات العسكرية ولم يكن بإمكانها معاودة الإقلاع، لذلك قامت الولايات المتحدة بتفجيرها في موقع الحدث، وذلك منعاً لتسرب أسرارها التقنية للأطراف الأخرى.

الحرب بين الولايات المتحدة وروسيا هي حرب تقنية في المقام الأول حتى لو لم تكن هناك مواجهة مباشرة بين الطرفين، والتاريخ يزخر بالكثير من الأحداث التي تؤكد ذلك، ففي ستينات القرن الماضي كانت طائرة الميج 21 الروسية تتفوق على الطائرات الحربية الأمريكية، وقد سخرت الولايات المتحدة وقتئذ جهدها للاستحواذ على هذه الطائرة لتتمكن من فك طلاسمها التقنية، وقد وجدت بغيتها عندما تمكنت من تجنيد أحد الطيارين العراقيين وحثته على الهروب بها إلى إسرائيل حليفة الولايات المتحدة، وخلال حرب كوسوفو في التسعينات سقطت إحدى طائرات الشبح الأمريكية بميدان المعركة فسارعت روسيا لالتقاطها، لذلك فمن المرجح أن جميع الآليات العسكرية الروسية التي سقطت في أوكرانيا خلال الحرب الدائرة حالياً نُقلت للولايات المتحدة، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة هي المستفيد الأول من هذه الحرب.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدا جلياً للجميع أن النصر من نصيب الدولة التي تملك تقنيات عسكرية أكثر تقدماً وتطوراً من نظيراتها، وقد شهد القرن المنصرم غزو الفضاء وانتشار أقمار التجسس بين القوتين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، فخلال فترة الخمسينات أرسل الاتحاد السوفيتي أول بعثة فضائية خارج مجال الكرة الأرضية، ولم تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي بطبيعة الحال عقب هذا السبق الروسي فتبعتها ببعثتها خلال ستينات القرن المنصرم، ومن بعدها أصبح الفضاء مرتعاً للصراع التقني بين القوى العظمى ولاسيما لخدمة أغراض التجسس، فمن خلال تقنيات الأقمار الصناعية بات العالم مكشوفاً لمن لديه القدرة الأعلى على مسح المواقع الأرضية المستهدفة واستخلاص المعلومات المطلوبة عنه.

الحرب على الأرض لا تغني كثيراً وليست هي مفتاح النصر في الحروب العسكرية، فالحرب التقنية وعلى الأخص الجوية هي القادرة على حسم النزاع، ويتجلى ذلك في مقولة المارشال الألماني روميل «والملقب بثعلب الصحراء» عندما أعلن صراحة أن السلاح الجوي هو السلاح القادر على حسم المعارك العسكرية، ودونه تصبح مواجهة العدو أشبه بمواجهته بالقوس والرمح، لذلك فإن الدول العظمى لم تتوقف لحظة عن الحشد والتطوير العسكري وحيازة التقنيات المتقدمة ومنع الآخرين من الحصول عليها، وهو ما يحيلنا لطرح سؤال أكثر جوهرية بشأن الحرب الروسية الأوكرانية والمغزى من استمرارها لأكثر من عام، فهل أصبحت أوكرانيا ساحة تجسس خفية لتحديد قدرات كل طرف عسكرياً لإعادة رسم خارطة العالم من جديد؟.