-A +A
علي بن محمد الرباعي
درس (غرم الله) في الكتاتيب، ثم التحق بالمدرسة النظامية، ولاحقاً بمعهد المُعلمين الابتدائي، وتخرج بعد ثلاث سنين، وتم تعيينه مُعلّماً في قرية نائية، يُداوم إليها مشياً، كل صباح سبعة كيلو، ويقطع عند عودته ظهراً مثلها، كان الراتب 280 ريالاً، وبمجرد وصوله للمنزل يحط ثوب الدوام، ويرتدي ثوب العمل، وينزل الوادي، يرمم حجاير المزرعة، وينقّي الثُفى، ويشغل الماطور، ويسقي الطماطم والقضب، ووالدته ترسل له ما يقيم أوده، إلى وقت العشاء، ويوم الخميس يستيقظ قبل الفجر، ويحتّ الكرات، ويقلع البصل الأخضر، ويحملها في كيس مبلل على رأسه، ويمر السوق يبيعها بما قسم الله، ولا تبدأ الحصة الأولى، إلا وهو في فصله، وأمام طلابه.

وفي عهد الملك خالد ارتفع الراتب الشهري، إلى 2900 ريال، فبنى له عليّة مسلّح، فوق البيت الجدّي، وتزوّج، واشترى سيارة عراوي، وأضاف لمهامه العملية، مهمة (المشاوير) لنقل الركاب من قرية لقرية، ومن منطقة لمنطقة، وذات ليلة شاتية، طلب منه رجل قادم من مدينة، إيصاله لقريته، والطريق ترابي، فغامر والمطر يصب على تندة العراوي، وهو والرجال في سواليف، ولما أوصله، حاسبه على المشوار، ودخل عليه الراكب، يتعشى معه ويبات عنده، وقال له (خيرة الله عليك لا تسري في هذا الليل) فاعتذر وفي منتصف الطريق، تعطّلت السيارة، وحاول الإصلاح بخبرته المحدودة، فتبللت ملابسه، وصار لحيه يرقف من البرد والجوع، والخوف، من الجنّ والذئاب.


قفل الأبواب، وتمدد في الغمارة، وكل دقيقة يفز، من صوت الرياح، ويحس أحداً يحرك السيارة، ولم يجد بُداً من تسليم أمره لله، مستدعياً النوم المستعصي، على أمل أن يأتي الصباح، والصباح رباح، إن كتب الله عمراً وسلامة.

كانت أطول ليلة في عمر غرم الله، الذي يتذكر تلك الليالي، وقد تجاوز السبعين من عمره، ولم تسلب منه المتاعب والمصاعب، روح المغامرة.

تنوّر في طرق الاستثمار، واتجه للعقار خصوصاً في مكة وجدة، وفتح الله عليه أبواب الرزق، فتقاعد من التعليم، وانصرف لمتابعة أنشطته العقارية.

وفي زمن الصحوة، كان (غرم الله) يسمع خطاباتهم وخطبهم، ولكنه غير مقتنع بما يسمع، ويقول لمعارفه، والله يا مواعظهم، لا خلّت ولا بقّت، عن خُطب جمال عبدالناصر، الذي أوهم القوميين، إنه بيغدي البحر طحينة، فكانت النكسة والنكبة، وتنبأ مبكراً بانتهاء الصحويين قائلاً (الدولة أهملت لهم الفتيل، وبيجي يوم وتشده).

وإذا تعالت أصوات مناصري الصحوة، على مائدة الإفطار في المدرسة، قال دخيلكم لا تغيّرون دِلتنا، ولا سيرة أهلنا، وكثيراً ما ردد (والله ما يجي من هذه الوجوه العابسة خير) وبعض زملائه، يعترضون عليه، خاف الله في أحباب الله، فيقول، (إن عشنا وأحيانا الله لتشوفون كلامي) وحذرهم من الانخداع، وذكّرهم بفضل الدولة التي رسّخت العدل، ووطّدت الأمن، ووفّرت الوظائف، وقال، هذولا بيضيعون المنجزات، كلها لو نجحوا في مخططهم، وبالفعل لم تمر سنوات حتى أقرّ له محسنو الظن بالصحوة برؤيته الثاقبة، وتحليلاته المنطقية.

عاش (غرم الله) زمن وفرة السلع وقلة الريال، ثم أدرك فترة الرخاء والطفرة، ثم عايش مراحل التقشف، وفي هذه الأيام وصل الشَّحم إلى قعور آذانيه... وانفرجت أساريره للتحولات التي استعادت المجتمع من أيدي المُختطفين، وانشرح صدره، وانتقل للعيش في مدينة دافئة.

تفاجأ ذات مساء بمدير مدرسته الأولى يضمه إلى (قروب واتساب)، ورتبوا لقاءات، مع من تبقى من زملاء حقبة السبعينات الهجرية، واتصلت الاجتماعات، ما بين وجبات وسهرات، في استراحات، ولكن (غرم الله) عاشق التجديد، لم يعد عظمه الذي وهن يحتمل، ولا شعره المُبيض، وصار يتذمر، من كثرة رسائل الصحويين، المزعجة صباحاً ومساء، وغالباً لا تبشر رسائلهم بخير، بل تعكّر المزاج، فزملاء المرحلة، والرحلة كلهم وعاظ، وغرم الله صابر على غُلب.

دعاهم ذات ليلة للعشاء في مطعم حديث، وحاسب على العشاء بألف وخمسمائة ريال، وبعد العشاء، بدأت فرقة فلكلورية، تقدم عروضاً وألحاناً جنوبية، فانتشى أبو الغروم، وبدأ يتفاعل ويصفّق، وإذا بمجموعة الزملاء الضيوف، يخزرونه بعيونهم، وتقاطروا للخروج، وهو قاعد مكانه، يفكّر ليش خرجوا بدون لا (تصبح على خير) ولا كثّر الله خيرك!

انهالت الرسائل، على جواله، (خاف الله هذا سوء خاتمة، نسأل الله الثبات) وكان يتساءل، هل الفرح والبهجة والترفيه (محرّمة) في دين الإسلام غير المؤدلج؟ وتذكّر أيام العمل والإنتاج في القرية، وكيف كان المجتمع متصالحاً مع كل ما يبهج ويُسعد، ورأى أن الفرصة مواتية للتخلص، من المأزق الذي وجد نفسه فيه.

حذف (غرم الله) القروب، وبحث عن رُفقة جديدة، من الشباب (أعمارهم بين الثلاثين والخمسين)، وانطلق معهم في رحلة إسعاد يومياته، دون إخلال بواجباته، الشرعية والاجتماعية، وغدا يوزّع النصائح، على معارفه وذويه، بأن يرتبطوا بعشّاق الحياة والأدب والفن والإبداع، ما دام الإنسان محافظاً على صلاته وصيامه، ولا يتجاوز حدود الله، فتجددت صحته، ونضرت وجناته، وزادت نشاطاته، وارتفعت مداخيله.

اتصلتُ به أسأل عنه، فقال، أبشرك انفكيت من النشبة، ولي شهر في دولة آسيوية، وبنيت مسجد ومدرسة، وأضاف، قائلاً: قناعتي أن جوهر الدين عمل صالح ينفع الناس، ومعاملة حسنة تسعد وتبهج الآخرين، ولا يقتصر على مواعظ، وكلام مستنسخ وممل، وأقسم أن الدِّين لم يكن كلاماً عند الأجداد والآباء، بل ممارسة عملية بصمت وهدوء، وقال، تدري إني أعرف من بعض الذين يرسلون (المواعظ) العقوق لوالديهم، وقطيعة الرحم، وشهادة الزور، والغيبة والنميمة، وبعضهم يسترزق بالطواعة، وبعضهم يرفع بها مقامه الاجتماعي، واستعاد مقولة (الله ما يندر على اللعابين بدينه بالمشعاب، ولكن يسلط عليهم اللي أدهى منهم)، سألني: وش تعرف عني؟ فأجبته، كل خير، ما عهدتك إلا من الذين قال الله فيهم (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا) فقال: أي خدمة؟ فقلت: تكتب مذكراتك الناصعة، والعامرة، بالعطاء والصدق، وعفة اليد واللسان، والنابضة بحُبّ الخير لمن عرفت ولمن لم تعرف، فعلّق: أنا أعيش الحياة، وأنت أكتبها عني وعنك، وأضاف: احذر من بعض اللي نغمات جوالهم دعاء، يدخلونك من كُم، ويخرجونك من الثاني.