-A +A
صدقة يحيى فاضل
لم يحجب الاهتمام العالمي بمباريات كأس العالم في بلاد العرب، بقطر، الاهتمام السياسي العالمي بالقمم العربية الصينية التاريخية الثلاث التي عقدت مؤخراً ببيت العرب بالرياض، بدءاً من 8 ديسمبر 2022م، والتي أجريت أثناء زيارة الرئيس الصيني «شي جي بينغ» للمملكة العربية السعودية. حيث عقد قمة سعودية-صينية، وقمة خليجية-صينية، ثم قمة عربية-صينية. وفي هذه القمم، نوقشت، بالطبع، علاقة الصين بالمملكة، والعلاقات والسياسات الصينية المستقبلية تجاه المنطقة العربية، بصفة عامة. ومعروف، أن المملكة ترتبط بالصين بعلاقات قديمة ووثيقة، ومتنامية، وفي كل المجالات، وخاصة في المجال الاقتصادي والتجاري. ومؤخراً، تنامت هذه العلاقات بشكل ملفت. لذلك، اكتسبت زيارة الرئيس الصيني للمملكة، أهمية كبرى للبلدين، وللمنطقة، بل وللنظام العالمي ككل. حيث تم في هذه الزيارة مناقشة العلاقات الثنائية السعودية-الصينية، وسبل دعمها وتطويرها، بما يخدم مصالح البلدين الصديقين. إضافة الى مناقشة القضايا ذات الاهتمام المشترك.. وهي قضايا هامة، للبلدين، وللمنطقة وللعالم. والمتوقع أن تسفر نتائج هذه الزيارة عن تبلور مواقف مشتركة قوية تجاه كثير من هذه القضايا، وخاصة قضايا المنطقة العربية الساخنة الحالية.

****


ولا يجادل أحد في مدى أهمية المنطقة العربية، وما تحظى به من إرث حضاري عريق، وموارد بشرية ومادية هائلة، وإمكانات طبيعية فريدة. وإن كانت معظم هذه الإمكانات، (وما زالت) أحد أبرز أسباب ما تعانيه من أطماع واضطراب وقلاقل. في هذه المنطقة قامت اثنتان من أهم وأقدم أربع حضارات إنسانية في التاريخ. وقدمت هذه المنطقة لبقية البشرية الكثير من الإسهامات الحضارية، التي تنتفع الأجيال بها في كل مكان. وكانت المنطقة -وما زالت- مهد الأديان السماوية. ومن حيث «الموقع»، فإن المنطقة تتربع في نقطة الوصل بين قارات العالم القديم، آسيا وأفريقيا وأروبا، وتشرف على أهم طرق المواصلات البحرية على الكرة الأرضية. وفى الوقت الحاضر، يعرف العالم أنها تحتوي على مخزون الطاقة الأكبر (نفط، غاز) في كوكب الأرض، إضافة إلى ثروات طبيعية هامة أخرى، لا توجد (بنفس الكم والكيف الإيجابي) في غيرها من المناطق.

ولهذه الأسباب، وغيرها، كانت هذه البقعة -وما زالت- محل اهتمام وأطماع القوى الدولية الكبرى. وكانت (وتظل) ميداناً للتنافس بين هذه القوى. فالهيمنة على هذه المنطقة، أو مد النفوذ بها، تسهم في السيطرة على العالم. ولا يمكن لأي قوة أن تستمر كبرى، أو عظمى، ما لم يكن لها نفوذ قوي بهذه المنطقة. ومع صعود الصين، كدولة عظمى، واحتياجها المؤكد لاستيراد الطاقة، والمواد الخام، وضمان سوق واسع لتصريف منتجاتها المختلفة، كان لا بد أن تهتم الصين بالعالم العربي، وبخاصة المملكة ومنطقة الخليج. وهي تدرك تماماً أهمية هذه المنطقة، والتنافس الدولي الشرس على بسط النفوذ فيها، خاصة من قبل الدولة العظمى الأولى، أمريكا، وبقية الدول الكبرى: بريطانيا، فرنسا، روسيا، بخاصة.

****

من هنا، نجد أن لهذه القمم، ولهذه التطورات الإيجابية في علاقات الصين بالعالم العربي بعامة، أبعاداً محلية وإقليمية، وعالمية، لا يستهان بها. فالصين تسعى لتحقيق الهدفين الرئيسين التاليين بالمنطقة:

- تثبيت أقدام الصين بالمنطقة: فـ«محور» السياسة الصينية تجاه منطقة الخليج العربية يتركز حالياً في: محاولة الصين ضمان انسياب مستورداتها من النفط والطاقة من دول الخليج، وبأقل تكلفة ممكنة. علماً بأن الصين تستورد ما نسبته 18.6% من إجمالي استيراد العالم من النفط. وفي نفس الوقت، تسعى الصين لضمان سوق واسع ومغر، لتصريف المنتجات الصينية المختلفة. وهذا لا يمكن تحقيقه، على المدى الطويل، إلا عبر الوسائل التي تتبعها الصين، ومنها: دعم العلاقات الصينية مع دول المنطقة. وستظل الصين بحاجة لاستيراد المزيد من الطاقة. وأغلب مصادر توريد النفط الأخرى تظل أقل ملاءمة لاحتياجات الصين، بما في ذلك إمدادات النفط الإيراني..

- تقليص النفوذ الغربي (نفوذ الناتو) بالمنطقة، وخاصة النفوذ الأمريكي فيها: وتلك مهمة يصعب تحقيقها، في ظل التغلغل الغربي العميق بالمنطقة، ووجود «مصالح» أمريكية/‏ غربية هائلة فيها. ولا يتوقع أن يتراجع الاهتمام الغربي، بتزايد الاهتمام الصيني بالمنطقة. بل إن العكس هو المتوقع. لذلك، ستكون هذه المنطقة إحدى بؤر الصراع البارد والساخن بين العملاقين الأمريكي والصيني.

ويبدو أن اللعبة الصينية- الامريكية بمنطقة الخليج نتيجتها، في أغلب الحالات، «صفرية». فما تكسبه الصين بالمنطقة، تخسره أمريكا، والعكس صحيح. وبظهور العملاق الصيني، أصبح لدى الدول العربية، ومن في ظروفها، «خياراً شرقياً»، يمكن أن تستعين به لتحقيق بعض مصالحها، دون الإضرار بالغير.

****

وقد صدر «بيان ختامي» عقب انتهاء كل من هذه القمم، عبر فيه عن نوايا الأطراف المجتمعة (المشتركة والمشروعة) تجاه ما يشغلهم من قضايا، ومواضيع. كما صدر «إعلان الرياض»، ملخصاً في محتواه الرغبة العربية- الصينية المشتركة في تعزيز «الشراكة الاستراتيجية»، القائمة على التعاون الشامل في كل المجالات، خاصة في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وذلك في إطار التزام الجميع بمبادئ ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة، خصوصاً مبادئ الاحترام المتبادل لسيادة ووحدة أطراف الاتفاق، والامتناع عن استخدام القوة لحل الخلافات والصراعات الدولية. ومما جاء أيضاً في هذا الإعلان: التأكيد على أن القضية الفلسطينية تظل قضية مركزية بالمنطقة، وتتطلب المسارعة في حلها، حلاً، عادلاً ودائماً، هو حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، على حدود 1967م. كما تضمن التزام الدول العربية «الثابت» بمبدأ «الصين الواحدة».. ودعمها لجهود بيكين في الحفاظ على سيادتها، ووحدة أراضيها، والتأكيد مجدداً على أن «تايوان» جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية. حيث رفض البيان «استقلال تايوان»، بأشكاله كافة، وعبر عن دعم العرب للموقف الصيني تجاه تايوان، وهونج كونج، ودعم جهود الصين لصيانة أمنها القومي، وتنمية الديمقراطية، واستكمالها في هونج كونج، وبقية الأراضي الصينية.

وفي الواقع، أن دعم الصين للعرب في موقفهم نحو القضية الفلسطينية، ودعمهم لموقف الصين تجاه جزيرة «تايوان» لا بد أنه قد أثار حفيظة الغرب المتنفذ، الذي لا يريد -كما هو معروف- ممارسة أي ضغط على إسرائيل، مهما ارتكبت من جرائم، ولا يريد استعادة الصين لتايوان؛ كي «يستخدم» تايوان كقاعدة غربية متقدمة في عقر دار الصين، ضارباً عرض الحائط بمبادئ العدالة، وحل الخلافات بالطرق السلمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة.

ويحتمل أن يحصل بين الطرفين، الصيني والأمريكي، نوع من التفاهم.. بحيث يترك للصين المجال الاقتصادي فقط، ويبقى المجال السياسي والاستراتيجي أمريكياً. ولكن هذا الاحتمال ضئيل، بسبب صعوبة الفصل بين الاقتصادي والسياسي. ويعتقد أن مجرد تواجد الصين بالمنطقة، بهذا الزخم الاقتصادي، يثير التوتر مع القوى الدولية الأكبر، وبخاصة الولايات المتحدة. ويتوقع أن يتفاقم هذا التوتر كلما توثقت علاقات الصين بدول المنطقة، واستتب نفوذها. مما قد يدفع لحصول بعض الاحتمالات الصراعية الجذرية، في مسار السياسة الدولية بالمنطقة العربية. ومن ذلك، احتمال قيام «ناتو شرقي»، أي تحالف صيني- روسي، وغيرهما، يقلب توازن القوى الحالي بالمنطقة، وبالعالم، رأساً على عقب.