-A +A
صدقة يحيى فاضل
قلنا إنه، وبخصوص «مدى» تدخل الحكومة في النشاط الاقتصادي والاجتماعي لشعبها (الأعمال الضرورية) توجد الآن ثلاثة اتجاهات كبرى، هي: المذهب الفردي (الرأسمالية) الذي يؤكد على حصر التدخل الحكومي في أضيق نطاق ممكن، وإعطاء القطاع الخاص أكبر حرية ممكنة. والمذهب الاشتراكي، وهو نقيض «الفردي».... وتبلور كرد فعل على مساوئ الأخير. وهو يدعو لضرورة تدخل الحكومة - لأقصى حد ممكن - في الشؤون الاقتصادية وغيرها للبلد، والحيلولة دون انفراد قلة في المجتمع بالثروة والنفوذ والسلطة. ثم المذهب الاجتماعي، وهو اتجاه وسط بين الفردية والاشتراكية، وأنصاره يدعون لوجوب ضمان توازن بين التدخل الحكومي والحرية الفردية، وإن كانوا يقدمون مصلحة الجماعة على مصالح الأفراد.

ويمكن - تبعاً لذلك - أن نضع كل حكومة، من حكومات العالم الحالية، في أحد هذه التقسيمات الثلاثة... اعتماداً على مدى تدخلها في النشاط الاقتصادي والاجتماعي لشعبها، أي مدى قيامها بـ «الأعمال الضرورية». وسنجد أن هناك حكومات ينطبق على توجهها - الفعلي - الفردية، وأخرى الاشتراكية، وأخرى تعتنق الاتجاه الاجتماعي، وإن لم تتحدث بذلك. مع وجود «تفاوت» - بالطبع - في مدى التدخل أو عدم التدخل، من حكومة لأخرى، ومن وقت لآخر. ومع تبلور هذا التفاوت من حزب سياسي لآخر، تبعاً لتوجه الحزب، ونصيبه من السلطة.


ونكرر هنا: إنه حتى أكثر حكومات العالم اعتناقاً للمذهب الفردي - الحر - تضطر للقيام ببعض الأعمال الضرورية.... أي لممارسة شيء من التدخل الحكومي... أو - بكلمات أخرى - لممارسة قدر - قل أو كثر - من «الاشتراكية».... فكيف يقال إن الاشتراكية اندثرت؟ إن الذي في سبيله للاندثار هو الاستبداد السياسي.

**

ويعتبر جزء من «الحوكمة» من أبرز صور التدخل الحكومي الآن. فالحوكمة، وهي كلمة حديثة، أقرها مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 2002، مستمدة من الكلمة الإنجليزية (Governance) التي تعني: حكم. وقد انتقلت هذه الكلمة من السياسة إلى الاقتصاد والأعمال، وخاصة الشركات التجارية، حتى أنها تعني الآن - ضمن ما تعنيه - حوكمة الشركات والمؤسسات... أي إدارة الشركات وفق النظم والمبادئ التي تحقق أفضل إنجاز ممكن لهذه الشركات، إضافة لما تضعه الحكومة المعنية من نظم ومبادئ. ثم تطور استخدام هذا المصطلح، ليستعمل في المجالات الأخرى، وفي المؤسسات بمختلف أنواعها.

وتعرف «الحوكمة» أيضاً بأنها: عمليات وأطر تستخدم لتوجيه وضبط عمل المؤسسة (الشركة) وتوزيع الحقوق والواجبات بين المشاركين الرئيسين فيها، وضمان قيام مديريها بأعمالها، بدقة وكفاءة، مع الحرص على تطبيق القوانين والنظم التي تحكم إدارة ونشاط المؤسسة المعنية. والبعض يعرفها بأنها: مجموعة الأنظمة والمبادئ التي تدار بموجبها الشركات ويراقب نشاطها، وتتم متابعة أداء القائمين على إدارتها. إنها مجموعة القوانين والمبادئ (الحكومية وغير الحكومية) التي تدار بموجبها مختلف المؤسسات، وخاصة التجارية.

وللحوكمة بعدان، داخلي وخارجي. الداخلي يتضمن القواعد والمبادئ الذاتية التي يتم بموجبها إدارة الشركات، ومراقبة أدائها، بمسؤولية وعدالة وشفافية. ويتضمن البعد الخارجي الأرضية التشريعية والقانونية والتنظيمية التي يتم في إطارها ممارسة النشاط الاستثماري، والتجاري (مثل نظام العمل، نظام الشركات، نظام التمويل، نظام المقاضاة... إلخ)، إضافة إلى مدى توفر كفاءة بيئة العمل في البلد المعني.

**

ولو أخذنا الجانب الحكومي من مضمون الحوكمة، سنجد أن جزءاً كبيراً منه عبارة عن نظم وقرارات وسياسات منظمة، ومقننة، لنشاط المؤسسات، بما يضمن تحقيق هذه المؤسسات للمبادئ والأهداف التي تسعى حكومة الدول لتحقيقها في أرض الواقع، وعبر هذه الكيانات. وكثير من إجراءات الحوكمة (الحكومية) عبارة عن: إجراءات الهدف منها: ضبط الرأسمالية، والحيلولة دون انفلاتها، وترشيد نشاطها وحركتها، بما يحقق المصلحة العامة لغالبية سكان البلد المعني، مع عدم الإجحاف بأصحاب رؤوس الأموال. وبالطبع، تتزايد هذه القوانين والإجراءات، وتتشدد، كلما مالت حكومة الدولة المعنية نحو الاشتراكية، وتتناقص كلما كانت الحكومة، أو من على رأسها، تفضل الرأسمالية (المنضبطة) بعد التسليم بعدم وجود الرأسمالية المطلقة، وكونها أضحت من ذكريات الماضي.

**

وفي كل الأحوال، نجد أن الحوكمة (بمضمونها الحكومي) ما هي، في نهاية الأمر، إلا «تدخل» حكومي في النشاط الاقتصادي والاجتماعي لشعبها. وبالتالي، فإنه يمكن اعتبار هذه الحوكمة، أو معظمها، من الإجراءات «الاشتراكية» الهادفة للحد من غلواء الرأسمالية المطلقة. خذ، مثلاً: تحديد الأجور، تحديد ظروف العمل، التأكيد على حقوق العمال، منع الاحتكار، الضرائب التصاعدية على دخول الرأسماليين، توطين الأعمال، التأكيد على الحكم الديمقراطي الشعبي... إلخ.

إننا نعايش اليوم الرأسمالية المنضبطة، ذات الضوابط والقيود (الحكومية) العديدة، والتي هي، في واقع الأمر، إجراءات اشتراكية... أدى اتخاذها لإبقاء الرأسمالية، دون عناصرها القديمة التي جاء بها «آدم سميث» ( 1723 - 1790) في كتابه «ثروة الأمم»، الصادر عام 1776. لقد طالب «سميث»، وغيره كثير، وبقوة، بالحرية الاقتصادية المطلقة، وبترك الأمر لـ «السوق»، ليقرر ماذا ينتج، وكيف ينتج، بل وكيف يوزع مردود ما ينتج. أي أنهم دعوا للرأسمالية المطلقة، غير المقيدة بأي قيود، سواء كانت حكومية، أو غير حكومية. وفي البدء، كان لهم ما أرادوا.

ولكن، سرعان ما نتج عن انفلات الرأسمالية، وجموحها، كوارث اقتصادية، واجتماعية، لا حصر لها. وهذا ما أدى إلى ضرورة «التدخل» الحكومي، لضبط إيقاع الحرية الاقتصادية المطلقة، المتمثلة في الرأسمالية الأولى (الرأسمالية المطلقة). وهذا التدخل، وتناميه، تسبب في اندثار الرأسمالية المطلقة، لتصبح من الأيديولوجيات الاقتصادية - السياسية المنقرضة، وتحل مكانها الرأسمالية المنضبطة، بضوابط حكومية، وغير حكومية، متصاعدة.