-A +A
طلال صالح بنان
بعيداً عن الاستخدام المباشر للقوة الصلبة أو التهديد بها، الذي ربما أحياناً يبدو كسلوكٍ متهورٍ يفتقر للعقلانية.. ومفعم بالرعونة، كما يعاني من مشاكل هيكلية خطيرة تصل لحد الخطأ في الحسابات، صانعو السياسة الخارجية، يمكنهم اللجوء لأدواتٍ أكثر نعومةً وأطوع مرونة، لمواجهةِ موقفٍ خارجي تتوفر في إمكانات القوة الناعمة لدى دولهم ما يحقق الهدف من استخدامها بأقل تكلفةٍ محتملة، وبأجزلِ عائدٍ مجزٍ.

تاريخياً، بالنسبة للمملكة العربية السعودية: النفطُ كان وما يزال من أمضى أسلحة قوة الرياض الناعمة وأكثر أدوات سياستها الخارجية مضاء وفاعلية، يصل في أحيان كثيرة إلى مستوى استخدام القوة العسكرية الصلبة، دونما حاجة إلى إطلاق رصاصةٍ واحدةٍ، أو حتى التهديدِ بتصويبها، دعك الحاجة لحَشْوِها بالبارود. سلاحٌ يمكن اعتباره عتاداً إستراتيجياً غير تقليدي، إن صح التعبير. سلاحٌ لا يحتاج سوى «صنبور» يتحكم في مستويات تدفق النفط ارتفاعاً وانخفاضاً، طوعاً لإرادة سياسية عقلانية، واثقة وحازمة، بما يتوافق مع خدمة مصالح المملكة.. والتفاعل بكفاءةٍ ومقدرةٍ وفاعليةٍ مع ما قد تواجهه البلاد من تحدياتٍ ومخاطر أمنية، حقيقيةً كانت أم محتملة، إقليمياً ودولياً.


العالم كله يعرف مكانة وثقل المملكة في سوق الطاقة العالمية، كونها تمتلك أكبر احتياطي للنفط معروفاً في العالم، بخاصيةٍ فريدةٍ لا تتوفر في أية دولة أخرى، بأنه أقرب للثبات وربما الزيادة منه للنقصان، رغم القدرة الإنتاجية الهائلة لحقولِ المملكة، التي تتجاوز عشرة ملايين برميل يومياً، في مدة قصيرة نسبياً، لتصل إلى ١٥ مليون برميل، وربما أكثر. غزارة الاحتياطي النفطي واحتمالات زيادته المطردة (المؤكدة وغير المؤكدة)، تجعل النفط السعودي، يقترب من كونه مصدر طاقة أحفورية شبه «متجددة»! حالة نادرة في صناعة الطاقة الأحفورية لا تنافس المملكة فيها، أية دولة نفطية أخرى، مهما تقدمت وسائل وتكنولوجيا استخراج النفط، كما هو في حالة النفط الرملي.. والنفط الصخري.. والنفط العضوي، أو الوصول إلى مكامن عميقة للنفط، براً وبحراً، لم يكن بالإمكان تكنولوجياً الوصول إليها، من قبل.

تتحدد ميزة المملكة التنافسية في صناعة النفط، ليس فقط بغزارة الاحتياطي وإمكانات تنميته.. ولا في ضخامة الإنتاج والتحكم في تدفقات كميته، لكن بصورة أكثر تأثيراً ووقعاً في سوق الطاقة العالمية (انخفاض سعره). تكلفة إنتاج برميل النفط السعودي، لا يتجاوزعدد أصابع اليد الواحدة من الدولارات، بينما كثيرٌ من الدول المنتجة للنفط تتجاوز عشرات هذه التكلفة، وتعاني من استنزاف جائر في احتياطياتها النفطية، يرشحها الخروج من نطاق الصناعة النفطية، في فترة قصيرة جداً نسبياً، لا تتجاوز العقدين من الزمان.

باختصار: المملكة العربية السعودية تتمتع بميزة تنافسية حقيقية في سوق الطاقة العالمية، لا تجاريها فيها أية دولة منتجة للنفط في العالم.. ولا تستغني عن نفطها أي دولة مهما بلغ غنى اقتصادها وتقدمه، وتعددت وتنوعت مصادر الطاقة لديها، أحفورية كانت أم غير ذلك.

لذا: من أهم مرتكزات سياسة المملكة العربية السعودية الخارجية الشعور بمسؤولية سياسية وأخلاقية إستراتيجية تجاه استقرار سوق الطاقة العالمية، انطلاقاً من سياسة الرياض المعلنة (المحبة للسلام)، ترى أن مصلحتها الوطنية تتوافق وتوفير النفط بكميات وأسعار مناسبة محفزة لنمو اقتصاد العالم، ولا تتعامل مع ثروتها النفطية بنظرة رأسمالية صِرْفَة. استقرار سوق الطاقة العالمية.. واضطراد نمو الاقتصاد العالمي، وكذا اهتمامات البيئة وتقلبات المناخ، جميعها ضمن أولويات سياسة المملكة الخارجية.

لكن مع هذا الموقف العقلاني الرشيد في رسم السياسة النفطية للمملكة لا يتصور أحدٌ أبداً أن الرياض، في لحظةٍ ما، يمكن أن تتخلى عن أنياب ومخالب سلاحها النفطي الناعم، إذا ما اقترب أحدٌ، سواء بجهلٍ أو بسوءِ نية، من حمى مصالح المملكة وأمنها القومي، أو حتى محاولة النيل من المكانة النفطية الرفيعة التي تتسيدها في سوق الطاقة العالمية.

للأصدقاء حقوقهم، كما أن لعملاء المملكة النفطيين حقوقهم، ولسوق الطاقة العالمية حقوقها. لكن، في الأول والأخير، تظل مصالحُ المملكة وأمنها القومي، بل والحفاظ على مكانة الرياض الرفيعة، في محيطها الإقليمي والمحافل الدولية، هي الخطوطُ الحُمْرُ، التي ترسم حدودَ سياسةِ المملكة الخارجية، التي يجب أن يحاذرَ كل من يقترب من حِمَاها أن يتحسس موطئ الأرض التي تمشي عليها أقدامه.

إن رأيت رَئِيسَ وفد المملكة وأعضاءَه يبتسمون ويوزعون النكات والـ«قفشات»، يمنةً ويىسرةً، ويشيرون إلى أحوال الطقس، بدل الإجابة المباشرة عن أسئلة الصحفيين، في لقاءات الأوبك، فحَاذِرْ فإن (الليثَ)، في هذه الحالة، يكشرُ عن «أنيابِ» أخطر أسلحة قوة المملكة العربية السعودية الإستراتيجية الناعمة (النفط).