-A +A
نجيب يماني
ونحن على مقربة من ذكرى الانسحاب الأمريكي المحير من أفغانستان ولا زال مقطع الفيديو التراجيدي ماثلًا في الذاكرة، والذي يظهر فيه عدد من أفراد الشعب الأفغاني، وقد تعلّقوا بطائرة عسكرية أمريكية، وهي تشقّ جموعهم المتكاثرة والباحثة عن خلاص من الجحيم المنتظر في ظلّ سطوة وسيطرة «طالبان».

تعلن أمريكا ونحن على مشارف هذه الذكرى بأنها قتلت زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في كابول في ضربة موجعة يتعرض لها التنظيم الإرهابي المستمدة أفكاره وأدبياته من الإخوان وسيد قطب.


عشرون عامًا من حرب أشعلت الولايات المتحدة الأمريكية وقودها في أرض أفغانستان بدعاوى محاربة الإرهاب، والقضاء على القاعدة، في سعي لتأمين أرضها وشعبها بضربات استباقية في معقل التطرف، ومفرخة الإرهاب.. وها هي تغادر دون أن تنجز ما وعدت به، بل زادت الطين بلّة، ومكّنت للتطرف أن ينمو بأسرع ممّا كان عليه في السابق، مزهوًّا بمعنويات «المنتصر» على أكبر قوّة في العالم اليوم.. مخلّفة وراءها أسئلة حيرى، وعلامات استفهام كبيرة، حول مفهوم «نصف الحرب»، الذي بات ديدنها في الآونة الأخيرة، ولنا في العراق، وسوريا، وليبيا، والسودان، صور متكررة من هذا المشهد البئيس..!

عشرون عامًا من الموت المجّاني، والاقتتال وفقدان آلاف المليارات من الدولارات وأسلحة متروكة في المستودعات عادت لطالبان دون أن يكون هناك أدنى إحساس بوخز الضمير الأمريكي الذي وعد الشعب المطحون بحياة كريمة وادعة لتكون النهاية انسحابًا مخزيًا وموتًا مجانيًا، في رحلة الهروب من الجحيم، في مشهد يخز الضمير الإنساني بالألم، ويوغر الصدور بالأسى على خذلان شعب، وضياع أّمة.

سوف يتكرر هذا المشهد وسيظل حاضرًا ومعبرًا أشد التعبير عن إدارة لم تضع الإنسان الأفغاني في حساباتها، ولم تنظر إليه بعين الإنسانية، وإنما جعلته حقل تجارب، ومطية لتحقيق أهدافها، وليتها حققت منها شيئًا يذكر. بل زادت من جروحه وخيبته ويأسه، وتعلّقه حتى الرمق الأخير بـ«سراب» الخلاص الأمريكي، فآثر الموت سقوطًا من حالق على العيش على الأرض ليموت بقهر «طالبان»..!

إن المأساة لتبلغ ذروتها بالنظر إلى التبريرات التي ساقها الرئيس الأمريكي جو بايدن، تعقيبًا على هذه الأحداث بالقول: «إنّ هدف مهمّتنا في أفغانستان لم يكن يومًا بناء دولة».. وكأنما كان دخول القوات الأمريكية أول أمره لهذه الغاية، وهو على خلاف الواقع تمامًا، فالكل يتذكر الشعارات التي رفعتها الولايات المتحدة حين غزوها لأفغانستان، بحجة محاربة الإرهاب والقاعدة، وهي حجج وجيهة قياسًا على الخطر الذي كانت تمثله «القاعدة»، فماذا أنجزت القوات الأمريكية من ذلك وهي تترك أفغانستان في قبضة طالبان التي بدأت المعسكرات التدريبية لتفريخ الإرهابيين تعود إلى الواجهة وتظهر مجدداً على غرار ما حصل قبل اعتداءات سبتمبر حسب قول السيناتور ليندسي غراهام. والذي قرر حقيقة ماثلة أن قرار انسحاب بايدن من أفغانستان جعل من البلاد ملاذًا للإرهابيين، إضافة إلى الممارسات القمعية تجاه المرأة ومنعها من مزاولة حياتها الطبيعية وإعادة حالة التشدد والمغالاة.

فليس من التجنّي القول بأن تدخّل الولايات المتحدة في أفغانستان عمّق الأزمة بأكثر ممّا كانت عليه، ومنح التطرّف حصانة وقوّة وروحًا معنوية سيكون لها الأثر المدمر في مستقبل أفغانستان، والمنطقة المحيطة بها لاحقًا، وربما يمتد الأثر لأبعد من ذلك.. فإن لم تفِ الولايات المتحدة وتخلص لشعاراتها القديمة بمحاربة الإرهاب والتطرف، أما كان جديرًا وخليقًا بها أن تعيد ما دمّرته بفعل حرب العقدين، عوضًا عن القول بأن مهمتها في أفغانستان لم تكن بناء دولة، فهل كانت مهمتها «تحطيم دولة»!

بعيدًا عن البكاء على اللبن المسكوب؛ وتعاطيًا مع الأحداث وتداعياتها في الواقع المعيش على أرض أفغانستان، فإن المحيط الإقليمي هو المعني بالدرجة الأولى في معالجة هذه التداعيات، كونه الوحيد الذي سيكتوي بنارها، سواء على مستوى النزوح والهجرة واللجوء من قبل الشعب الأفغاني الهارب من جحيم طالبان، وهو العارف بأجندتها، المكتوي بنهجها، والمتلظّي بقسوتها وجبروتها، ويكفي أنها قد أعلنت قبل استلام زمام السلطة توجهها لفرض القيود الصارمة، وبخاصة تجاه المرأة، بما يعيد أفغانستان إلى عهود التيه والظلام والتخلّف، أو على مستوى تحجيم تمدد الفكر المتطرف، وتصدير الأجندات المفخخة، وهنا يكمن الخطر المحاق، والشر المستطير، فلا مجال للتراخي والغفلة حيال هذا الأمر، حتى لا نعود إلى مربع الدعاية للجهاد المزعوم بأحلام دولة الخلافة الإسلامية، وتجييش السذج والتغرير بالشباب لمثل هذه الأهداف المشبوهة، والنوايا الملغومة.. فالحذر الحذر، والحزم الحزم فلا يضحك علينا بعد اليوم أحد فنحن ولله الحمد أصحاب تجربة مريرة مع أصحاب الجهاد المزعوم.