-A +A
محمد الساعد
من يعتقد أن المجتمع استفرغ كل القيء والصديد الذي بداخله عبر تطبيقات السوشال، وخاصة تطبيق «التيك توك» فهو واهم جداً، فالأسوأ لم يأتِ بعد.

ولا تزال الكاميرا اللعينة تغوص عميقاً في المجتمعات ناقلة لنا أردى العادات وكاشفة تفاصيل من المفترض تغييبها عن الغرباء، وعارضة أخطر الأسرار بل أدقها وأكثرها خصوصية وحميمية، من حمامات المنازل إلى غرف النوم المغلقة.


سيأتي يوم قريب يتجرأ فيه «المتردية والنطيحة» من الفاشلين والمجهولين وخريجي السجون والمدمنين والمهربين والمجرمين على نقل تجاربهم وحياتهم إلى العلن، وسنترحم على الطبقة الموجودة في منصات التواصل اليوم.

قبل أسابيع رأيت مقطعاً لـ«بدر صالح» وهو أحد مشاهير اليوتيوب منذ العام 2010، ينتقد «الطفح» الذي خرج على جلد المجتمع من مشاهير السوشال الجدد، وأضحى يقول عنهم ما كنا نقوله عنه نفسه: كيف أصبح هؤلاء مشهورين وكيف لهم الحق أن يكونوا في واجهة الإعلام، اليوم يشرب «بدر» من نفس الكأس.

بقينا عقوداً طويلة نضع في منازلنا بابين أحدهما للضيوف والآخر للعائلة، تلمساً لخصوصية ربما بالغنا فيها، وإذا بالكاميرات تدخل ليس إلى مجالس الضيوف فقط، بل تصل إلى دولاب الملابس الداخلية داخل الغرف، حيث تعرض تفاصيل وحوارات يستحي العاقل أن يراها في بيوت الآخرين.

ليست القضية عرض أجساد وتعرٍ كما يحصر الكثير أنفسهم فيها، بل هي أخطر وأعمق من ذلك، إنه انهيار اجتماعي سريع ومريع، انهيار لمخزن القيم الحافظة لترابط وتماسك الأسر والمجتمعات المحلية ثم المجتمع الكبير بلا سبب مقنع، فلا الفقر مبرر ولا البحث عن الشهرة ولا حتى إغراء الكاميرا والهياط أمامها مقبول.

كان ولا يزال التعليم والإصرار عليه هو الوصية الأولى للأديان والأنبياء والفلاسفة وصولاً للتدرج الاجتماعي والانتقال من طبقة إلى طبقة، لأنه الطريق الوحيد القادر على الفرز بين متعلم وصاحب عقل وحكمة سيتولى منصباً أو منبراً ذات يوم يدير من خلاله حياة الناس، أو طبيب يعالج المرضى، أو معلم يدرس الطلاب، أو مهندس يبني المنازل والطرقات، لكن أن تكون كاميرا لا تستغرق 30 ثانية سلّماً وهمياً تضع من لا يستحق في مكان لا يليق به ولا بالأمة التي ينتمي إليها فهذا مصير مجهول وانحدار لقاع لا قرار له.

أفهم أن الموهوبين لهم الحق في الظهور، وأفهم أن المتخصصين والمؤرخين وأصحاب المعرفة يمكن لهم أن يجدوا منصة إضافية ينقلون من خلالها علومهم وتجاربهم، لكني أعجز عن فهم أن يخرج زوج وزوجته، أو أب وأسرته، أو أم وبناتها، أو حتى أفراد بلا فهم ولا الحد الأدنى من أي قيمة يمتلكونها إلى العلن بحثاً عن مال سهل وسريع فقط لأنهم ملوا من طرق الحياة في كسب العيش.

أتذكر مقولة أثيرة لأحد الدارسين للمجتمع المصري إثر احتجاجات الخريف العربي التي عصفت بمصر 2010، يقول فيها: لقد انفجر القاع وخرج علينا أناس لا نعرفهم ولا يعرفوننا، لا نشبههم ولا يشبهوننا، أصبحوا المتحكمين في حياتنا، امتلكوا الشارع والقرار، يرفعون أصواتهم ويتحكمون في مصيرنا.. وكأن سداً مثله انفجر علينا وكشف العورات وأسقط القيم والشعارات.

يجب أن لا نقبل أن يكون البحث عن المال والغنى السريع حجة، لأن ذلك الاستسلام لإغراء المال سيدفع المجتمع للتوحش، فومضات الشهرة سريعاً ما تنطفئ، ولإبقائها لا بد من تقديم المزيد من التنازلات والقرابين واحدة تلو الأخرى.

كما أن الفقر أو الحاجة ليس مبرراً للتكشف و«التسفل» -كما يقول عبد الرحمن الكواكبي- عبر تطبيقات السوشال، فقد عاش آباؤنا وأجدادنا وأجداد أجدادنا على الفقر والجوع وقلة ذات اليد في الجزيرة العربية القاحلة معدومة الموارد ولم يفقدوا كرامتهم ولا قيمهم ولا شرفهم، بل كانوا مضرب المثل في مكارم العروبة والدين.

كانوا يربطون الحجر على بطونهم من الجوع وقلة الزاد، ويكدون ليل نهار في حقولهم وبواديهم متماسكين لم تُهدم على أيديهم قيمة واحدة، والآن من الواجب علينا ونحن أحفادهم ونعيش في حياة أكثر راحة وأكثر فرصاً أن لا نفرّط في ما أورثوه لنا، وإلا سيكون الثمن غالياً جداً علينا وعلى أبنائنا وأسرنا، وأكثر مما نحتمل.