-A +A
نجيب عصام يماني
ممّا لا جدال حوله أنّ حدّية التوصيف بالصّواب والخطأ، على هذا النّحو الراديكالي، يطالها كثير من اللبس في عالم السياسية، طالما بقيت المواقف السياسية رهنًا للمتغيرات المحيطة، وقرينة بالتكتيكات التي يفرضها الواقع، ولهذا ذهب البعض إلى القول إن توصيف السياسة بأنها «فن الممكن»، وهي عبارة تحمل في أطوائها مساحة مرنة ومطاطة، تكاد تجمع الشيء وضدّه في آن واحد، متى ما تمّ النّظر باستصحاب كافة المعطيات، وقلّبت على كافة الأوجه، وجرى الترجيح وفق المصلحة المراد تحقيقها، والتي غالبًا ما تتباين فيها الآراء، وتتباين فيها وجهات النّظر، بما يجعل من الحكم بالصّواب المطلق، أو الخطأ الكلي أمرًا في غاية «المخاطرة»، عند التعامل السياسي..

ولو وجّهنا الحديث عن الساحة اللبنانية على وجه التخصيص، لأمكننا أن نمايز بين المواقف وأصحابها وفقًا لدرجة الاقتراب أو الابتعاد عن الثوابت، كون لبنان الشقيق على وجه التحديد، يكاد يمثّل حالة خاصة من حيث تضارب مصالح الفرقاء فيه بشدة، وتتباين المواقف فيه بحدة، في مشهد معقّد، تتجاذبه نوازع الصّراع على كافة المستويات العقدية، والاجتماعية، والاقتصادية، ممّا شكّل مزيجًا متنافرًا، زاد من تنافره التدخلات الإيرانية في شأنه الداخلي، عبر ذراعها المشوه والمشبوه في كل شيء؛ حزب الله، ومليشياته المسلحة، بما أوجد حالة من «دولة داخل دولة»، فضلاً عن صراع الطوائف، وتقاطعات المصالح، والمحصلة من كل ذلك دولة بالكاد تقف على قدميها، في ظل انهيار اقتصادي، بلغت معه «الليرة» اللبنانية القاع، وارتفعت فيه معدلات التضخم لمستويات قياسية طالت دواءه وغذاءه وكل أساسياته، وفي ظل كل هذه الظروف المتشابكة والمظلمة والمعقدة والمتقاطعة والمتوازية أيضًا في مشهد لا مثيل له في تاريخ الدول.


في أتون هذا المشهد المُحير يقف فؤاد السنيورة كربّان يحاول إخراج بلاده من التيه والضياع والارتهان لحزب الشيطان.

ومهما تباينت المواقف حيال تقديراته السياسية، والتكتيكات التي ينتهجها للموازنة والترجيح، ومحاولات المرور بأمان في حقل الألغام المخبأة في الساحة السياسية اللبنانية؛ إلا أنه لا خلاف على الإطلاق بأنّ «السنيورة» يعد رمزًا من رموز لبنان، ممن حفظوا ثوابتها، ودافعوا عن هويتها العربية، وجابهوا جبروت المدّ الإيراني وذراعه البائس «حزب الله»، فهو من رفض قانون الانتخابات اللبنانية الجديد، والذي أدى إقراره إلى إعطاء الأغلبية البرلمانية لمليشيا حزب الله الإرهابية وحلفائها، كما أنه، في حربه الضّروس ضد التدخل الإيراني، رفض أن يعطي مليشيا حزب الله وحلفاءها الثلث المعطّل بعد حرب يوليو 2006، وكان ذلك بعُد نظر أثبتت الأيام صحته، فضلاً عن قرار حكومته بتفكيك شبكة الاتصالات السلكية اللاشرعية واللاقانونية، التي كانت تتبناها مليشيا «حزب الله»، بما أنهى وقضى على نفوذها في مطار بيروت الدولي آنذاك.. وظل موقف «السنيورة» من حزب الله والتدخل الإيراني موقفًا صلدًا وقويًّا ومشرّفًا، معضدًّا للوجود السنّي، بل إنه أبلى بلاء حسنًا في تأسيس المحكمة الدولية منظورًا في الكتلة الحريرية، ومساندًا للهوية العربية للبنان، وحتمية تقديره لمصالح دول الجوار وبخاصة الدول الخليجية، وهو في خضّم هذه الحرب النبيلة، لم يخضع لكل الحملات الإيرانية الشوهاء، التي حاولت النيل منه بتشويه سمعته وصورته السياسية، والسعي لمحاصرة حكومته، وخلق الأزمات تلو الأزمات في طريقها، واتهامه باطلاً بالفساد المالي وسرقة المال العام، لكن السنيورة ظل قابضًا على جمر القضية، رافضًا تغيير «اتفاق الطائف» وأن يكون هو الأساس والأصل لأي تعديل قادم معليًا شأن لبنان، ومقدمًا مصالحها على كافة المصالح الأخرى.

إن هذه المواقف السياسية المشرّفة لدى السنيورة ثابت من الثوابت التي لا محيد عنها، وركن ركين من أسباب تجنيب لبنان المزالق والوقوع في محاضن العمالة والارتزاق، وتبقى تقديراتها الأخرى في الشأن الاقتصادي، محل مداورة ونقاش، وإن غلب عندي توصيفها وترجيحها على الصواب، قياسًا على الواقع المعقّد الذي يشهده هذا البلد الشقيق.