-A +A
طلال صالح بنان
كان أشد رد فعل لغزو روسيا لأوكرانيا، هو: ما جاء في خطاب المستشار الألماني أولاف شولتز في: ٢٧ فبراير الماضي، عندما ركز أمام نواب بلاده في البرلمان (البوتستانج) على قضية الأمن، في تطورٍ خطير لم تقدم عليه ألمانيا، منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية واستسلامها للحلفاء (٧ مايو ١٩٤٥).

ألمانيا، بعد تجربة الحرب العالمية الثانية، تخلت طوعاً عن خيار الحرب، وأن يكون لها جيش قوي قادر على الدفاع عنها، وأوكلت مهمة الدفاع عنها لحلفائها في الشرق والغرب، واستمرت هذه السياسة حتى بعد توحيد البلاد إلى غزو روسيا الأخير لأوكرانيا. ألمانيا، كما جاء في ذلك الخطاب لم تتخلَّ عن التدخل عسكرياً في مناطق الصراع حول العالم، فحسب.. بل أعلنت عن سياسة دفاعية جديدة بزيادة ميزانية الدفاع، حتى تتمكن ألمانيا في فترة زمنية وجيزة، كما جاء في الخطاب: من بناء جيش وطني قوي تتكل عليه في الدفاع عن نفسها.


معنى هذا: أن ألمانيا، لن تعتمد على عدوها التاريخي في الشرق في مواصلة تزويدها بما تحتاجه من مصادر الطاقة والمواد الطبيعية الخام، ولا على سوقه الكبيرة الواعدة لصادراتها الصناعية. في المقابل، لن تركن إلى حلفائها في الغرب، في الدفاع عنها، وتزويدها بما تحتاجه من مواد خام ومصادر طاقة، في ما لو انقطع إمدادهما من روسيا. باختصار: أمن ألمانيا لا يمكن أن يكتمل إلا بإعادة بناء جيش وطني يمتلك إمكانات ردع إستراتيجية، لحماية حرية وديمقراطية الشعب الألماني، كما قال المستشار شولتز.

إستراتيجياً، بموجب هذا الخطاب: ألمانيا تعيد تقييم علاقتها مع جيرانها في الشرق والغرب، على تلك الأسس الإستراتيجية، التي كانت قائمة بداية القرن الماضي، وقادت إلى نشوب الحربين العظميين (١٩١٤ -١٩١٩، ١٩٣٩-١٩٤٥). «الجِين» القتالي، إن صح التعبير، بدأ يسري من جديد في دماء وعقل الشعب الألماني، وإن كان هذه المرة يبحث أولاً عن الأمن، وليس التوسع والهيمنة.

هذا التحول في الإستراتيجية الدفاعية لألمانيا، سيلقى معارضة من الداخل، قدر ما ينذر بالخطر لحلفاء وخصوم ألمانيا، في الغرب والشرق، على حدٍ سواء. ألمانيا، تاريخياً كانت تنظر إلى الشرق كمجال حيوي لتوسعها القاري لتوفير الطاقة والمواد الخام والأسواق والأيدي العاملة الرخيصة. ومن ناحية أخرى تنظر إلى جيرانها في الغرب كخصوم إقليميين، ينافسونها على مكانة الهيمنة على أوروبا، حيث أكثر بؤر العالم القديم توتراً منذ نشأة الأنظمة الدولية الحديثة، نهاية القرن الخامس عشر.

ألمانيا لديها وفرةً من الموارد والتكنولوجيا الحديثة والتقدم العلمي المميز والضمير القومي الوقّاد والطموح الإقليمي، ما هو كفيلٌ بإخراج المارد الألماني من القمقم. خطاب شولتز، الذي قوطع بموجات تصفيق مطولة من قبل أعضاء البوتستانج بما فيهم المعارضة، لم يكن موجهاً لعدو ألمانيا التاريخي في الشرق فقط.. بل وإلى حلفائها في الغرب، بنفس الحدة والغضب وعدم الثقة.

كيف سيتعامل العالم مع ألمانيا الجديدة، بعد أن كانت إما مقسمة أو مهيضة الجناح إستراتيجياً.. وتقود عودة العسكريتارية لألمانيا لتفشي العدوى في الشرق، وتعود اليابان بدورها إلى سابق سلوكها الإمبراطوري التوسعي، في مواجهة تنامي قوة عدوها التقليدي القاري غرباً (الصين). لا يفوتنا أن اليابان أعلنت أنها ستدخل الحرب مع الصين، إن هي غزت تايوان.

العالم، يدخل العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، بمؤشرات خطيرة من عدم الاستقرار، بظهور قوى عظمى جديدة، غير تلك التي عرفها العالم طوال نظام الأمم المتحدة، تدفعها قوميتها «الشيفونية»، وكذلك القلق على أمنها.. واستيقاظ طموحها القومي وغريزتها التوسعية التاريخية، لأن يكون لها شأن مؤثر في مصير سلام العالم وأمنه.