-A +A
منى المالكي
اصطحبت معي صوت فوزي محسون وهو يشدو في شجن رائعته «يا حبيبي ويا حياتي ويا عيوني آه لو أقدر أوصف لك شعوري»، في دويتو رائع مع رفيق دربه طلال مداح، هذان الصوتان حلّقا بي في عوالم الطفولة والذاكرة، لم يكن يوازي «حضور جدة» إلا صوت فوزي محسون وطلال مداح في رحلتي الصباحية تلك هكذا قررت! فمضيت بسيارتي لأعبر من شمال جدة إلى جنوبها، ولأرى ذلك الرعب الذي صورته تلك الأبواق المستأجرة وكأنه استلاب، لأرى ذاكرتنا وعمرنا الأجمل جدة! فمضيت إلى تلك الأزقة المتخمة بألوان الفرح في ليلة العيد وشراء الحلوى من هناك في شارع قابل، مروراً بسوق الندى، وعبرت الذكريات لتلك الأيام الجميلة التي انتهت وللأسف عندما انتشرت تلك العشوائيات البغيضة لنهرب نحن من ذاكرتنا وننزوي بعيداً، ونراقب كيف أصبحت تلك الأماكن تئن تحت وطأة الجريمة والمخدرات، كيف أصبحت بعض الأسماء لتلك الأحياء تبعث الخوف من الاقتراب منها ليلاً لأنها غير آمنة! نعم، عروس البحر اختطفت منا في غفلة من الزمن من قبل جاليات استوطنتها وأبعدتنا عنها! نعم، هذا ما حدث ولا يكابر على هذه الحقيقة إلا فاسد!

كم كانت حسرتي عظيمة، وأنا أمر بتلك الأماكن وأشاهد كمية المخلفات واللسان المختلف والبضائع المقلدة والوجوه التي لا تملك أمامها إلا الانصياع خوفاً منها وكأنك في بلدك غريب، هؤلاء الذين حسبوا كرمنا ضعفاً ومروءتنا هواناً وتضامننا معهم انقياداً وذلاًّ، هذه المفاهيم التي دفعنا ثمنها كثيراً وعلى مدى سنوات من التسامح من إعطاء فرص مرة تلو الأخرى لتطوير تلك الأحياء، ولكنها للأسف لم تجدِ نفعاً، بل تمادوا كثيراً ونسوا أن هناك دولة ونظاماً ورؤية وتطويراً، هذا كله ضربوا به عرض الحائط لاستجداء تعاطف ماكر واللعب على وتر العاطفة، ولم يقيموا لكل تلك السنين وزناً ولا قيمة.


نعلم جميعاً أن هناك من تضرر، وأن هناك من يتألم على وضع تلك الأحياء والعشوائيات، ونعلم أن هناك من ودّع زمناً جميلاً ورفقة عمر وصحبة لن يستطيع تعويضها، نعلم بمدى فداحة الفقد لكل تلك الذكريات ولذلك العمر الأجمل، ولكن عندما تكون المراهنة على أمن وطن يجب على ذلك كله التنحي، عندما تكون المقايضة على بقاء كل ذلك الركام من الجريمة والعشوائيات مقابل تطوير وبناء وطن لأجيال قادمة، لا بد أن تفسح كل تلك المشاعر الطريق لرجال حملوا أمانة هذا البلد الطاهر لمستقبل أجمل قادم.

لن نسمح لأصوات حاقدة محدودة تعلمنا كيف أصبحت جدة درة الوطن عجوزاً للأسف تبكي أيامها الزاهية الغابرة، لن نسمح لجاليات حاقدة إخافتنا بمحو ذاكرة جدة والبكاء على أطلالها. «ذاكرة جدة» باقية وتتمدد وستبقى، سنكتب ذاكرة جدة، وسيظهر المشروع العظيم ليعيد لنا جدة ببهائها، نريد لذلك المشروع التطويري أن يحفظ ذلك الموروث الخالد الذي شارك به أهل البلد الأوفياء وتدوينهم لقصة سور جدة، وعوائل جدة التي بنته وحافظت على نكهة جدة، ثم قصة الهجرة العظيمة التي جاءت بأبناء القبائل ليشاركوا في صناعة «أسطورة جدة»، نريد أن تبقى جدة ماثلة وباقية في مشروعها القادم تصدح في أرجائها أصوات فوزي محسون وطلال مداح، وأشعار ثريا قابل في جنبات جدة، هكذا سنستعيد جدة مرة ثانية، ولكن هذه المرة لن تضيع بإذن الله تعالى.