-A +A
علي بن محمد الرباعي
تَحَمُّل ميراث النبوّة، ليس تشريفاً، وإنْ لم يخلُ من شرف، بل هو تكليف ومسؤولية، (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)، ويصح أن يكون كل مسلم، شريكاً في ميراث النبوة، فيما ليس من خصائص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأرقى وأغنى نصيب من الإرث النبوي الاقتداء بالرسول عليه السلام في أخلاقه وتعامله وسلوكه.

يُمكن أن نُسلّم جدلاً بأنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان مع نبوّته حاكماً دنيوياً، ورَئيس دولة، جمع بين مقام النبوة ومسؤوليات الرئاسة، وإذا ما وَصفنا عهد النبوة بالحقبة التأسيسية للمجتمع المسلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم، هو النبي الهادي، وهو الحاكم، والمرجع الدنيوي، الذي بيده السلطات الثلاث (التشريعية، والقضائية، والتنفيذية)، وأن غاية إرسال الرسل وإنزال الكتب ضبط المجتمعات، وإقامة العدل، وتطبيق أحكام الشرع، فإنّ من يقوم به من بعده يُعدُّ وريثاً له في إحياء الأرض لا وحي السماء.


إذا ثبتت المسلّمات الآنفة، وإذا صحّت المقدّمات السالفة، فالطبيعي أو المنطقي أن يكون الملوك والأمراء ورثة الأنبياء؛ لأنهم المعنيّون بأمور الدُنيا والدِّين، ولا ينازعهم إلا ظالم، حتى إن كانت شرعيتهم بالغلبة والاعتراف والرضا الشعبي بحكم سياقات مألوفة عربياً وإسلامياً منذ قرون مُفضّلة.

لطالما ألفى الإسلامويون أنفسهم في مأزق، فإنّ سلّموا بأنّ الملوك والأمراء ورثة الأنبياء، فالمطلوب إعطاء البيعة لرئيس الدولة بالقلب لا من ورائه، والخضوع لمنهج ومبدأ المواطنة بالالتزام بالواجبات، ونيل الحقوق المُقررة، إلّا أن هذا متعذّر على مَنْ أعطى بيعةً لمرشد وحِزب وولي.

إذا كان الأنبياء عليهم السلام، المبعوثون من خالق الكون لهداية البشرية، وإصلاح أخلاق الإنسانية، جمعوا بين السلطات التشريعية (الوحي) والتنفيذية (ممارسة الصلاحيات الدنيوية) و(القضائية) وهذا الغالب على قناعات وخطاب جماعات الإسلام السياسي، فلماذا ينكرون على (حاكم) معاصر ما يرونه منهجاً مؤسساً على أيدي صفوة الخلق؟

من المفارقات أن جماعات الإسلام السياسي منحازة لصف المعارضة، وتلتزم بأدبيات الثورة، ما يؤكد تاريخياً أنها لا شرعيةَ لها، ولا مشروع عندها، وعهد المصطفى عليه السلام، هو العهد المثالي لكل العصور، إلّا أن ما بعده لا يعدو التجارب التاريخية المفتقرة للمثالية، والمرتدية رداءً بشرياً، والمحتكمة إلى الواقعية السياسية الممتدة إلى يومنا، والمستحيلة الاستدعاء لزمن لاحق، ويظل لكل تجربة ما لها وما عليها.

يظل الامتياز الأكبر للدولة الحديثة متمثلاً في توحيد المرجعية الوطنية لا تعددها.. وليس معنى ذلك إلغاء دور الشخصيات الاعتبارية الشورية، والمؤسسيّة.. وإذا أتحنا للعقلاء فرصة الاختيار بين حاكم مدني في دولة وطنية، وبين ولاية المرشد، وولاية الفقيه، فما هو الاختيار الموضوعي أو الأمثل؟

يزِنْ مُنظرو الإسلام الحركي بميزانين، ويكيلون بمكيالين، وهم يدركون بالواقع والوقائع أن إدخال الشركاء المتشاكسين في حكم الدولة إضعاف لها، وإمالة لمركزية القرار، وتمييع لهيبة الوطن، وتحجيم لدور الحاكم الذي له اعتباراته الدِّينية، والقانونية، والداعون لتعدد السُلطات بتوظيف حديث (العلماء ورثة الأنبياء) لمنح أنفسهم مشروعية ممارسة التشريع والتنفيذ وإن خالفوا نظام الدولة، فالحديث توقّف عنده الحافظ ابن رجب، ويظل مصطلح العلماء واسعاً يدخل فيه علماء الفلك والطبيعة والكيمياء والنبات وطبقات الأرض، وعلماء الإنسان، والحيوان، ممن بلغوا خشية الله بحكم ما عرفوه من الحق عن الخالق بالعلم التجريبي.

لا اعتبار بشعارات الحمقى المُبغضين الأوطان، الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض أو يغفلون أو يتغافلون عن بعض، فإن قيل لهم إن النبي عليه الصلاة والسلام كان رسولاً نبياً، ولم يكن حاكماً دنيوياً، شنّعوا على القول والقائل، واستعرضوا آيات الحاكمية في سورة المائدة، على ما تحتمله من تأويل ورمزية، تقتضيهما تاريخانية النص.

وإن قيل لا بأس بالقول إن النبي عليه السلام ولِي الأمرين معاً، ولذا ليس كُفراً ولا شِركاً أن يكون وريثه حاكمنا اليوم، مع الأخذ في الاعتبار أن الحازم من الخلفاء الأمراء والملوك لم يسمح لكائن من كان بالتطاول على مُلكه، ومن اكتفى من الحُكّام بلباس التقوى تجرأوا عليه، وقتلوه في منزله، وهو يتلو القرآن، ليغدو قميص عثمان -رضي الله عنه- شاهداً على خطورة ضعف الحاكم أو استضعافه.

ربما قال قائل ألا يلزم من ذلك إضفاء العصمة على الحُكّام، والجواب أن الأنبياء عليهم السلام غير معصومين في شؤونهم الدنيوية، ومن ذلك ما أجمع عليه العلماء، من عصمتهم عن الكبائر دون الصغائر وهو قول ابن تيمية، فآدم عليه السلام عصى ربه بأكله من الشجرة فغوى، ونوح دعا «ابني من أهلي» فعوتب من الله «ليس من أهلك» وموسى وكز رجلاً فقضى عليه، وداوود استعجل في الحكم دون سماع ردّ الخصم، ونبينا عليه السلام حرّم ما أحل الله له، وعبس في وجه ابن أم مكتوم.

يذهب علم الاجتماع السياسي إلى أنه لم يقف أي نظام ديموقراطي مع الفصل المطلق بين السلطات، فالسلطات والمسؤوليات الحكومية تتداخل عن عمد وفق منظومة مُحكمة ومترابطة، ومبدأ الفصل بين السلطات، اقترحه العالم الفرنسي (مونتسكيو) في عام (1748) في كتابه (روح القوانين)، وتأثر به (جان جاك روسو) في كتابه (العقد الاجتماعي)، وكانت النظم السياسية في أوروبا، إلى ذلك الوقت، تعتمد جمع السلطات الثلاث في شخص الحاكم، بمباركة كافة الأطياف، ما عزّز سُلطة الساسة.

الدولة (شعب، وأرض، وسُلطة، وقانون) ويصف الدكتور محمد طه بدوي في كتابه (القانون والدولة)، «القانون» بالعنصر المعنوي، القائم في ضمائر المجتمعات والأفراد، قبل أن يُترجم إلى واقع عملي، وحقيقة سياسية، علماً بأن رقابة القضاء والنيابة عند تنفيذها، تكتسب بُعداً مادياً.

ويمكن إيجاز الفكرة في أن منافسة دولة وطنية، قائمة، ومستقرة، ليس من الإيمان في شيء، ولا من ميراث النبوة، فورثة الأنبياء ملتزمون بأعراف وأدبيات ونظام وقوانين وتشريعات مجتمعهم ودولتهم، باعتبارها من لوازم الإيمان بالله ورسوله، وليقينهم أن درء المفسدة المُتيقنة، أولى من جلب مصلحة مظنونة، أو متوهّمة، ولا بأس بقراءة تاريخ السُّلطات، دون تسليم بسُلطةِ التاريخ.