-A +A
منى المالكي
يقول عنترة بن شداد في معلقته الجميلة: هل غَادَرَ الشّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ ... أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ.

يقف عنترة على أطلال حبيبته ليؤكد أنه سيعرفها وستبقى محفورة في ثنايا ذاكرته مهما تقادم العهد بها، وليذهب بنا قبل ذلك في صورة مقابلة لهذا المعنى الشعري إلى أن الشعراء السابقين لم يبقوا له معاني مبتكرة يقول بها في معلقته الأشهر! وكأني به يقرر حقيقة أخذ المعاني المطروقة سلفا من الشعراء السابقين للاحقين، وتكمن البراعة في ما يقوله ويصيغه ويأتي به الآخر -أقصد به المبدع المتأخر- من قوة صياغة لغوية ومعنى جديد يتعدى في خياله ما سبقه، «ومعنى بيت عنترة: أنه لم يترك الأول للآخر شيئاً، أي سبقني من الشعراء قوم لم يتركوا لي مسترقعاً أرقعه ومستصلحاً أصلحه والمتردم: الموضع الذي يسترقع ويستصلح لما اعتراه من الوهن والوهي، والتردم أيضاً مثل الترنم، وهو ترجيع الصوت مع تحزين».


وعنترة هنا يقرر مصطلحا نقديا حديثا يعرف بـ«التناص» وهو ما كان يعرف في النقد القديم بـ«السرقات الأدبية»، ولا نقصد من هذا القول المفاضلة بين المصطلحين، فكل مصطلح أدى وظيفته في زمنه، لكن التطور الحضاري والثقافي والنقدي يجعلنا نعيد النظر في المصطلح التراثي لنربطه بزمنه الحالي بعد النظريات النقدية الحديثة التي تحلل وتفكك وتشرح النصوص الأدبية لتنقضها ثم تعيد بناءها!.

ومن أشهر من ألصقت به تهمة السرقة شاعر العربية العظيم المتنبي مثلا! بينما والنقد الحديث يدعو إلى القراءة الفاعلة التي يبدو معها النص الأدبي والشعري خاصة مشحونا بتأثير شعراء آخرين، فالقراءة الصحيحة للشعر لا تكتفي بالنظر في ما أبدعه الشاعر، وإنما يتحقق التأثير بقراءة سواه من الشعراء، لأن القراءة أكدت أن معظم المبدعين العظام، كان إبداعهم مشحونا بما سبقهم من إبداع، بل إن عالم اللغويات الفرنسي (لانسون) يرى أن أعظم الكتاب أصالة، من تكاثرت عنده هذه الرواسب، إلى أن يقول: إن ثلاثة أرباعه مكون من غير ذاته!

كذلك يرى الناقد الأدبي الفرنسي (رولان بارت) «أن فصل النص عن ماضيه ومستقبله، يجعله نصا عقيما، لا خصوبة فيه، أي أنه نص بلا ظل»، معنى هذا أن الإنتاج الأدبي يعتمد استعادة إبداعات سابقة، وهذه الاستعادة تكون خفية حيناً، وجلية حيناً آخر، بل إن كثيرا من هذه الإبداعات تكون تنويعا على ما سبقها، لأن الارتداد إلى السابق بالقراءة يقود حتماً إلى نوع من التماس أو التداخل الذي يعتمد التوافق تارة، والتضاد تارة أخرى، كذلك يرى الناقد الروسي (تودروف) في «أن العمل الفني يدرك في علاقته بالأعمال الأخرى، استناداً إلى الترابطات القائمة بينهما».

ومع كل هذا الوعي بحقيقة إنتاج الإبداع والتأثر والتأثير بداخل النصوص الأدبية والأعمال الفنية إلا أن هناك من يقوم بالسرقة والكتابة عن البعض! فمن خلال قراءتنا للأعمال الإبداعية ومشاهدتنا للكثير من روائع الفن الإنساني منذ فجر التاريخ نرى مدى التشابه في ذلك الإنتاج الخلاق، والناقد الحقيقي هو الذي يستطيع معرفة مدى التجاور بين هذه النصوص والأعمال، فهناك من يتأثر بقراءته أو مشاهدته أو عمله بشاعر أو روائي أو فنان تشكيلي أو ممثل أو مخرج سينمائي أو غيره ممن سبقه في مجال إبداعه، فتترسب تلك المشاهدات بداخله وتظهر في أعماله بخلق وإبداع جديدين تظهر فيه شخصية المبدع الجديد، بعيدا عن النقل الحرفي لعمل من سبقه، هنا تكمن قوة وجمال وتأثير الفن والأدب.