-A +A
محمد مفتي
قبل أيام كنت أشاهد بعض البرامج الوثائقية المصورة لأحداث الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقد شد انتباهي ما رأيته خلال تلك الحقبة الزمنية -على الرغم من قدمها- من تطور وحضارة كانت تتميز بهما المدن الأوروبية، والتي كانت تزخر بالعديد من المباني السكنية الفخمة والمستشفيات المبنية على أحدث الطرز المعمارية بمعداتها وأدواتها المتطورة، كما لفت نظري ما كانت تتمتع به من بنية تحتية مميزة خاصة بالمرافق والمواصلات، ولم تكن تركيا العثمانية في ذلك الوقت تختلف كثيراً عن تلك المدن الأوروبية.

كان مصدر تعجبي هو السياسة التي اعتمدها القزم العثماني لحرمان شبه الجزيرة العربية وشعوبها من أدنى مقومات الحياة كالتعليم والصحة، حيث عمد إلى تصدير الخبرات والكوادر والموارد لعاصمته الآستانة التي كانت ترفل وقتها في النعيم والبذخ، وقد كانت النظرة المتعالية المتعجرفة هي التي تسيطر على منظور دوائر الحكم العثمانية آنذاك، والتي لم تكن ترى سكان المنطقة سوى حفنة من البدو لا تستحق النعيم ولا رغد الحياة، وقد كانت أقاليم المملكة قبل تأسيسها ليست أكثر من مجموعة قرى إن صح القول، تخلو من جميع مظاهر الحضارة كالمدارس والجامعات والمستشفيات والمرافق والبنى التحتية.


كانت نظرة الغرب للمنطقة وقتذاك استعلائية ولم يأملوا في إنشاء حضارة في تلك البقعة الصحراوية التي بدت لهم جرداء غير صالحة للحياة وغير مؤهلة لتأسيس حضارة من الأساس، غير أن تلك البقعة الصحراوية تحديداً غدت خلال عقود معدودة بعد تأسيس المملكة معلماً من معالم الحضارة في العالم، ترتكز على بنى تحتية متينة ويتمتع شعبها بمقومات حياتية كريمة تضاهي الكثير من مثيلاتها في الدول المتقدمة، وقد أصبحت واحة في الصحراء مبنية بسواعد أبنائها فحسب دون الاعتماد الكلي على منجزات الحضارات الأخرى كما فعلت الكثير من الدول، وخلال تلك العقود القليلة شقت المملكة طريقها في صعود مستمر نحو القمة.

يحلو للبعض أن يصور أن حضارة وإنجازات المملكة اعتمدت فحسب على مواردها الاقتصادية، ولكن كم من الدول تملك موارد اقتصادية عظيمة ويعيش شعبها تحت خطر الفقر، لا يمكن أن تعتمد التنمية فحسب على الموارد الاقتصادية، بل لابد من وجود قيادة قوية تحسن إدارة تلك الموارد الطبيعية بكفاءة وعزم، وتأخذ في الاعتبار مصالح شعبها، فقد تتوفر لدى بعض الدول إيرادات عظيمة من مواردها غير أنها قد تسيء استخدامها وتنفقها على الحروب أو يتم هدرها من خلال الانخراط في أنشطة فاسدة، بل قد تكون إيرادات تلك الموارد وبالاً على الشعب نفسه إن صادفت ووقعت في يد حاكم مستبد (ويزخر التاريخ بالكثير من هؤلاء) يستخدمها لصالح نزواته وإرضاء لميوله التسلطية المرضية، أو يذيق شعبه الويلات جرّاء الزج به في حروب لا طائل منها سوى إذلاله وإفقاره.

لقد مرت مسيرة التطور والتنمية المستدامة في المملكة منذ تأسيسها بمراحل مختلفة، وعلى الرغم من العواصف التي مرت بالمنطقة والحروب التي عايشتها إلا أن قيادتها ظلت دوماً حريصة على استمرار هذا التطور، وقد مرت المملكة ببعض الظروف الاقتصادية المضطربة -وخاصة في الثمانينات من القرن الماضي- والتي شهدت انخفاضاً حاداً في سعر النفط مما أثّر على طبيعة وسرعة المشروعات التنموية، غير أنها لم تتوقف كليةً على الإطلاق، وخلال كل مرحلة من تلك المراحل حرصت المملكة على الخروج من المآزق والحروب التي عصفت بمنطقة الخليج بأقل الخسائر الممكنة، وهو ما تجلى بوضوح خلال حربي الخليج الأولى والثانية.

في يومنا الوطني لا يسعنا سوى تذكر الإنجازات العظيمة التي لم نبدأ في تدشينها إلا خلال عقود قليلة، متجاوزين إنجازات دول لم تعانِ أبداً مما عانته المنطقة من إهمال وتجاهل، ومتفوقين على دول أخرى كثيرة تعثرت بسبب جنون قاداتها وسوء إدارة حكوماتها، وفي الوقت الذي ننظر فيه باعتزاز لما قمنا بإنجازه بالفعل، نرنو بعين الرضا والفخر لعملية التنمية المستدامة التي ننعم بها في وقتنا الحالي، فنحن لم نشهد في المملكة طفرة حضارية فحسب، بل نشهد طفرة حضارية مستمرة وفي تقدم كماً وكيفاً، ولاسيما خلال الآونة الأخيرة والتي شهدت تدشين رؤية جديدة لحاضر ومستقبل المملكة، رؤية نجد ملامحها وقد بدأت تتشكل بوضوح يوماً بعد يوم، وهو ما يؤكد أن الحضارة لا تقوم إلا على التخطيط الجيد والتطبيق الحاسم والرؤية الطموح والعمل الجاد.

والمتتبع المنصف لمسيرة التنمية المستدامة السعودية خلال السنوات القليلة الماضية يلاحظ أن عملية التطور لم تتجسد في قطاع بعينه؛ فهي لم تتركز في الجانب العمراني أو تتعلق بقطاع المرافق والبنى التحتية فحسب، بل شهدت تطويراً شاملاً لجميع مناحي الحياة سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية، فهي عملية تنموية ناتجة عن رؤية إصلاحية شملت الكثير من الجوانب، والتي أقل ما يقال عنها إنها إصلاحات جذرية عميقة، تضمنت التنمية البشرية وحقوق الإنسان ومحاربة الفساد وتنويع مصادر الدخل القومي، كل ذلك بالاعتماد على سواعد أبناء الوطن وحدهم، وهو ما حقق طفرة حضارية حقيقية تجسد حاضر ومستقبل المملكة المزدهر والمشرق خلال الألفية الثالثة.