-A +A
صدقة يحيى فاضل
لفت نظري، قبل أيام، في هذه الصحيفة، مقال رائع ومتميز، ينبض بالوطنية المخلصة، ويصدح بالاعتزاز بالأمة. كما يعبر عن الحزن العميق على ما آل إليه حال واحدة من أكبر وأقوى الدول العربية (العراق). ورغم غلبة الشعور العاطفي على ما طرحه المقال، إلا أنه يذكر (بقوة) من يهمه الأمر من شرفاء هذه الأمة، بحال الأمة العربية، وما وصل إليه من بؤس، لا ندرى متى ينتهى. كان المقال بعنوان: العراق... الأعياد مؤجلة، للكاتبة السعودية الشابة ريم العسيري (عكاظ: العدد 19976، 22 /‏7/‏ 2021، ص9).

بدأت الكاتبة مقالها بالقول: «لم يجتذبني وطن بقوة نحوه- بعد وطني- إلا العراق، الذي يجعلني في كل مرة أقترب فيها من كل ما يمت له بصلة، على موعد مع دهشة أخاذة، أو حزن جديد. يجيد العراق إرضاء مزاجي، وإثراء عقلي، وإبقاء قلبي على قيد الحب...».


****

ذكرتني هذه العبارات الجميلة بمشاعري الخاصة نحو هذا القطر العربي العظيم، وما أصابني من حزن على ما تعرض له من ظلم وعدوان همجي سافر. حيث إنه: «لم يجتذبني وطن بقوة نحوه -بعد وطني- إلا العراق، وبقية الأقطار العربية الشقيقة...». رغم أنه لا صلة لي بهذا البلد، لا من قريب ولا من بعيد. كما أنني لم أتشرف قط بزيارته، رغم سفرياتي الكثيرة. وأذكر أن معهد سمو الأمير سعود الفيصل للدراسات الدبلوماسية بالرياض، كان يقيم ندوات عن دول الجوار، وما يجب أن تكون سياساتنا نحوها. وقد تشرفت بالمشاركة الدائمة في هذه الندوات. ومن المصادفة أنني كلفت بكتابة البحث المتعلق بالعراق. فكتبته... بدمي ودموعي، كما يقال في مثل هذه الحالات.

طرحت ورقتي عن العراق، بعاطفة جياشة، كادت أن تلغي «العلمية» التي كنا حريصين على الالتزام بها، حتى نخرج ببحوث علمية، بعيدة عن الشجن والعواطف، تعين صاحب القرار على اتخاذ القرار الصائب. فلم أفاجأ حينما تساءل أحد زملائي وأصدقائي المشاركين في تلك الندوة: هل أرضعتك أم عراقية؟! فقلت له: لم أتشرف بذلك، ولكنه الشعور بالأسى على ما آل إليه حال الأمة، ممثلة بالعراق. حيث إنني لا أنعي العراق، بقدر ما يؤلمني حال أمتي. وهو حال لم يقتصر على العراق وفلسطين، كما نعرف. ومتى اقتصرت المؤامرة على العراق؟!

لا أنسى منظر القوات الغازية وهي تطأ بأقدامها بغداد، ويتسلل معها «جيش» من الإسرائيليين، دخلوا العراق ليقتلوا علماءه، ويغتالوا بعض رموزه، وينهبوا جزءاً كبيراً من آثاره، وتراثه، وثروته. كان منظراً بشعاً وقاهراً، يذكر بالغزو المغولي للعراق، سنة 1257م، 655هـ.

****

باختصار، فإن التعاطف مع العراق يعنى (في رأيي) التعاطف مع كل البلاد العربية، خاصة حال تعرضها لعدوان ظالم، يهدف لتدميرها تدميراً منهجياً، يصعب بعده أن تقوم لها قائمة، كما حصل للعراق. والتعاطف مع المظلوم غريزة إنسانية.. توجد في كل إنسان سوي. وهذا التعاطف يعكس أيضاً إعجاباً بعراقة العراق، لكونه أحد مهاد الحضارات الإنسانية الأولى. وكذلك بإنجازاته المعاصرة، وما قدمه من علم وثقافة وأدب وفن، منذ استقلاله. وقد لمسنا كل ذلك من أساتذة ومدرسين وأصدقاء عراقيين. بالإضافة إلى زملاء دراسة زاملناهم بالخارج. وفي نهاية المطاف، فإن التعاطف السوي إنما هو بمثابة كلمة حق تقال، بصرف النظر عن طبيعة المتعاطف معه، خاصة في هذا الزمن الأغبر، الذي فقدت فيه البوصلة الصحيحة. وقد قدمت الكاتبة ريم، من عسير العروبة والمروءة والشهامة، تعاطفاً صادقاً، لعله يزيل ما يحاول البعض إلصاقه بشبابنا وشاباتنا بأنهم ضد العروبة وقضاياها.

****

ما حصل، ويحصل، للعراق، مجرد فصل في مسرحية دولية إجرامية مكشوفة، تستهدف أغلب المنطقة العربية. وبسببها، أصبح معظم المنطقة الآن أكثر مناطق العالم اضطراباً، وعدم استقرار، سواء كان سافراً، أو مبطناً. ويعود ذلك للمسببين المترابطين العتيدين الرئيسين: المسبب الذاتي/‏ الداخلي: ويتجسد في أربعة أسباب رئيسة (الاستبداد السياسي، الطائفية، المذهبية، الإسلاموية). ثم المسبب الخارجي/‏الأجنبي: ويتجلى أساساً في: حركة «الاستعمار الجديد» وما يوضع وينفذ، تجاه المنطقة، من خطط، التحالف الصهيوني- الاستعماري. إضافة إلى سياسات «مد ودعم النفوذ» التي تمارسها الدول الكبرى بالمنطقة.

وسبب ما حصل للعراق تحديداً، هو: الاستبداد السياسي، زائداً «التحالف الاستعماري- الصهيوني». فقد ابتلي العراق بديكتاتور أحمق.. سهل لأعداء العراق، وأعداء الأمة، تنفيذ مخططهم: حصار، وغزو، وتدمير العراق. فلو كانت إدارة العراق بيد أهله، لكان العراق اليوم في عداد الدول الكبيرة المهيبة المزدهرة.

ولو لخصنا ما خسره العراق، بدءاً فقط من عام 1990م، سنة الغزو الإجرامي لدولة الكويت، فقد قتل حوالي أربعة ملايين عراقي (10% من مجموع السكان) وجرح أكثر من ثلاثة ملايين. كما شرد حوالي خمسة ملايين عراقي، داخلياً وخارجياً. ودمر أكثر من نصف بنيته التحتية. وزرعت فيه ميليشيات إرهابية، وفتحت أبوابه على مصراعيها للإيرانيين؛ الأمر الذي حول العراق إلى دولة منكسرة وشبه فاشلة.

****

ومن المؤسف، أن نجد المتصهينين العرب، وهم قلة قليلة، ربما يشكرون إسرائيل على ما فعلته في العراق، وغيره، من ديار العرب. فتلك أمور تفرحهم. ونترك «الزمن»، ليقول لهؤلاء، ويقول عنهم، ما يجب أن يقال لهم وعنهم. أما هنا، فنقف إجلالا، لنقدم تحية مخلصة للابنة الكريمة ريم العسيري. وأرجو أن تستمري في الكتابة الراقية، التي تهتم بالوطنية، وتحفز للارتقاء بمسقط الرأس أولاً، ثم بشقيقاته الموقرات. وأذكرها ونفسي، مرة أخرى، بأن العراق الأبي لم يكن هو المستهدف الوحيد في أمتنا، فمثلاً، بعد تدميره، اتجه «التحالف» غرباً، نحو الجمهورية العربية السورية، وغيرها، وغيرها.