-A +A
عبدالعزيز الوذناني
تم إطلاق برنامج «صنع في السعودية» الذي يمثل مشروعاً وطنياً طموحاً يهدف إلى دفع المنتج الوطني نحو آفاق من الموثوقية والكفاءة والتميّز والتنافسية ليس على المستوى الوطني فحسب وإنما على المستوى الدولي بمشيئة الله، فالمملكة حباها الرحمن بموقع جغرافي إستراتيجي وثروة شابة طموحة نعول عليها الكثير للانتقال إلى مرحلة جديدة من الابتكار والإبداع، فنحن مجتمع شاب حيث نحو ثلثي المجتمع السعودي تحت 35 عاماً، فالشباب هم الثروة الحقيقية لتحقيق أهداف القيادة الرشيدة وتعزيز مكانة المملكة على المستوى الدولي كقوة صناعية تساهم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية العالمية. كذلك ستساهم مبادرة «صنع في السعودية» في رفع نمو الناتج المحلي غير النفطي وحجم الصادرات غير النفطية وهذا يعزز قدرة الإنتاج الصناعي الوطني ليكون رافداً من الروافد الرئيسية للاقتصاد الوطني وحماية له من التقلبات المرتبطة بأسعار الطاقة في الأسواق العالمية. من وجهة نطري نجاح واستدامة هذه المبادرة المباركة والجهود الخيرة المرافقة لها والدعم السخي من الدولة والرعاية من ولاة الأمر يتطلب أمرين رئيسيين وهما: أولاً- الاستثمار والتوجيه والرعاية من قبل القطاع العام وهذا ولله الحمد نرى بوادره في ما يقوم به صندوق الاستثمارات العامة حيث يخطط إلى استثمار نحو 150 مليار ريال سنوياً في الاقتصاد الوطني. ثانياً- تمكين الشباب السعودي من مفاصل القرار في الاقتصاد الوطني أو ما يعرف ببناء رأس المال البشري الوطني المتسلح بالعلم والمعرفة والخبرة التراكمية.

استثمار وتوجيه ورعاية القطاع العام


التجارب الدولية الصناعية الناجحة في هذا المجال يمكن تصنيفها إلى مجموعتين رئيسيتين وهما: النموذج الاقتصادي الغربي وهذا السائد في الولايات المتحدة الأمريكية والقارة الأوروبية وخاصة أوروبا الغربية، وهذا نموج متقدم يلعب فيه القطاع الخاص الدور الرئيسي والمحرك الحقيقي للاقتصاد والموظف لليد العاملة الوطنية، هذا النموذج ربما لا يصلح لنا في الوقت الحاضر، حيث إن قطاعنا الخاص لم يشتد عوده بعد ولا زال يعتمد على اليد العاملة الأجنبية ولم يستثمر في السعوديين الذين يجب أن يكونوا اللبنة الأساسية للتنمية المستدامة في جميع المجالات ومن ضمنها التنمية الصناعية.

بعض الدول الآسيوية لها تجارب ناجحة، فمثلاً تجربة كوريا الجنوبية جديرة بالدراسة ومن وجهة نظري ربما تكون الأقرب والأصلح لنا كمثال. القارئ للتاريخ يعلم بأن كوريا الجنوبية خرجت من الحرب الكورية في 1953م مقسمة وممزقة الأشلاء وبدون موارد طبيعية، حيث إن معظم الموارد الطبيعية أضحت تحت سيطرة النظام الكوري الشمالي، وخلال السنوات العشر اللاحقة للحرب مرت كوريا الجنوبية بتجارب فاشلة، وفي السنوات الأولى من عقد 1960م بدأت دولة كوريا الجنوبية بإنشاء البنية التحتية الصناعة التي هي الأساس والبذرة الأولى التي قامت عليها الصناعات الكورية الحالية، الجدير بالذكر أن كوريا الجنوبية في ذلك الوقت لم يكن لديها قطاع خاص قوي أو رأس مال بشري مدرب ليتولى بناء وإدارة الصناعة الكورية، ولهذا عهدت الحكومة الكورية بتأسيس الصناعات الكورية في شتى المجالات وتدريب الكوريين وتأهيلهم لقيادة هذه الصناعات للقطاع العام وخاصة للجيش حيث إنه كان المؤسسة الوطنية الوحيدة المدربة تدريباً جيداً، وخلال عقدي الـ1960م والـ1970م تم إنشاء الصناعات الكورية في جميع المجالات وتم تعليم وتدريب الشباب الكوري لتولي دفة هذه الصناعات بدعم واستثمار وإشراف مباشر من الحكومة الكورية، وفي مطلع الـ1980م بدأ الاقتصاد الكوري بالتحول التدريجي والمرحلي والمدروس للقطاع الخاص وهنا تحول الإشراف المباشر للقطاع العام على الاقتصاد إلى إشراف من وراء حجاب لكي يضمنوا نجاح هذا التحول ومعالجة أي خلل في حينه حتى لا يؤثر على المنظومة الاقتصادية من إنتاج وتوظيف وتدريب لليد العاملة الوطنية، حيث استمر هذا التحول التدريجي لنحو عقدين ونصف خلال الفترة من 1980م إلى 2005م. مع نهاية هذه المرحلة تولى القطاع الخاص الكوري دفة الاقتصاد الوطني ورجع القطاع العام إلى مكانته الطبيعية وهو التشريع والتنظيم وتهيئة البيئة الضرورية لكي يعمل الاقتصاد الوطني بأعلى إمكانياته من حيث التوظيف الأمثل للموارد الاقتصادية ودفع عملية التنمية المستدامة بمعناها الشامل إلى الأمام في جميع المجالات.

لعلنا نجد في التجربة الكورية ما يفيد في بناء قدراتنا الوطنية وفي مقدمتها «الإنسان» السعودي فهو الأساس في نجاح الرؤية والضامن بعد الله عز وجل لاستمراريتها، وهذا هو مربط الفرس وجوهر رؤية 2030، فالإنسان السعودي المتسلح بالعلم والمعرفة والخبرة التراكمية هو العمود الفقري والمحرك الرئيسي للتنمية المستدامة.

بناء رأس المال البشري الوطني

المسلح بالمعرفة والخبرة التراكمية

تقدم الأمم وتطورها لا يأتي بين يوم وليلة، بل هو نتاج عقود من الاستثمار المخطط والمدروس في الإنسان الذي هو جوهر التنمية الشاملة بمفهومها الواسع وعمود سنامها، فليس هناك استثمار في الإنسان أهم من التعليم بشقيه التعليم العام والتعليم الجامعي. القارئ لتاريخ التنمية البشرية على مر العصور يدرك أن المعرفة والخبرة التراكمية هي الأساس الذي تبني عليه الأمم تقدمها وتطورها وصناعة تنميتها المستدامة.

فالإنسان هو الأساس في اكتساب المعرفة والخبرة البشرية التي تتراكم عبر الزمن، حيث يتعلم الإنسان من تجاربه وخبراته السابقة ويطور مهاراته ومعارفه ويصقلها بتجاربه العملية، فكلما زادت خبرته في أي مجال من المجالات يصبح أكثر مهارة وإتقاناً حتى يصل إلى مرتبة ما يعرف «بالخبير» في مجاله. تشير التجارب والأبحاث العلمية إلى أن الإنسان يحتاج إلى عشرة آلاف ساعة من العمل الدؤوب والمركز لكي يصبح خبيراً في مجاله ونفس الشيء يمكن أن يُقال عن الشعوب.

وهنا تحضرني تجربة نجاح سعودية خالصة ألا وهي تجربة «أرامكو»، فعندما بدأت أرامكو كانت تُدار من قبل الأمريكيين من أعلى السلم الإداري في الشركة إلى مُشغل السنترال، واليوم ولله الحمد تتولى إدارة الشركة سواعد وعقول وطنية خالصة من رئيس مجلس الإدارة إلى أصغر مهندس في حقول البترول. كيف تمت هذه التجربة التي من الأحرى بنا استنساخها؟ نجاح هذه التجربة يعود بعد الله عز وجل إلى الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن -طيب الله ثراه- الذي أدرك بحكمته وبعد نظره أن مستقبل هذه البلاد يعتمد بعد الله عز وجل على سواعد وعقول أبنائها.

للملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن -رحمه الله- قصة جديرة بالدراسة والتوقف عندها لاستخلاص الدروس واستلهام العبر من هذه التجربة، التي أنقلها لكم مثلما سمعتها من الدكتور وحيد الهندي أستاذ الإدارة العامة بجامعة الملك سعود. يقول الدكتور وحيد: في بدايات عمل شركة أرامكو والشركات المتحالفة لمد خط التابلاين طلب الأمريكيون من الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- السماح لهم باستقدام المزيد من الأمريكيين للعمل في المشروع لعدم توفر الخبرات الضرورية في المملكة آنذاك، وعندما شرحوا وجهة نظرهم للمؤسس وافق على طلبهم، ولكنه اشترط على الشركة أن يكون مقابل كل عامل أجنبي يتم استقدامه يكون هناك تدريب لعدد «عشرة» سعوديين.

على الرغم من بساطة وتواضع هذه القصة أمام تاريخ ومنجزات الملك المؤسس إلا أنها تحمل دلالات عظيمة على ما تمتع به الملك عبدالعزيز من حكمة وعبقرية وبعد نظر، ويجدر بنا استلهامها في هذه المرحلة بالذات. لقد أدرك الملك المؤسس بحكمته وبعد نظره بأن المملكة العربية السعودية لن تنهض وتتقدم وتزاحم الأمم على الصدارة إلا بسواعد وعقول أبنائها. وكذلك تتجلى حكمة المؤسس في التحديد الدقيق لعدد المتدربين «عشرة»، فلو كان الهدف عائماً وغير محدد فربما كان بالإمكان التحايل عليه ولكن تحديد الأهداف بدقة هو جوهر ما يعرف اليوم بمؤشرات الأداء أو الـ (KPIs).

تجربة ألمانيا واليابان في بناء رأس المال البشري

اليوم تحتل كل من اليابان وألمانيا المركزين الثالث والرابع على التوالي في قائمة الدول الأكبر اقتصاداً في العالم. الحقيقة التاريخية التي يعلمها الجميع أن هاتين الدولتين هزمتا في الحرب العالمية الثانية وتم تدمير بنيتهما التحتية وتم إخضاعهما للحكم الأجنبي وفرضت عليهما شروط الحلفاء المنتصرين. السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف استطاعتا خلال عشر سنوات فقط التعافي وإعادة بناء ما دمرته الحرب وتصبحا من ضمن أكبر خمس دول اقتصادية في العالم؟

للإجابة عن هذا السؤال دعنا نلقي نظرة فاحصة على تاريخ ألمانيا خلال الثورة الصناعية وصولاً للحرب العالمية الثانية. الثورة الصناعية في ألمانيا كانت متأخرة عن مثيلاتها في إنجلترا وفرنسا وبعض الدول الأوروبية الأخرى بأكثر من مائة عام، حيث لم يتم توحيد ألمانيا في سوق واحدة إلا في 1833م، وخلال الفترة من 1833م إلى 1870م كانت هناك عدة محاولات لاستنساخ الثورات الصناعية التي قامت في أجزاء مختلفة من أوروبا دون نجاح يذكر لأن ألمانيا في ذلك الوقت تفتقر للخبرة والمعرفة التراكمية اللازمة لتوطين المعرفة وبناء تنمية مستدامة. فلم تبدأ الثورة الصناعية في ألمانيا إلا مع قيام الدولة الألمانية الحديثة في 1870م وتأثرت بالحرب العالمية الأولى 1914م – 1918م والركود الاقتصادي العظيم 1929م – 1939م وكذلك بالحرب العالمية الثانية 1939م – 1945م. فعندما انتهت الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء كانت البنية التحتية لألمانيا مُدمرة واقتصادها منهكاً من الحرب ومن السياسات النازية، وفوق هذا كله وضعت ألمانيا تحت سلطة الحلفاء وقسمت إلى دولتين: ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية وخسرت أوروبا الشرقية كسوق وعمق تجاري واقتصادي واستمر العمل بالسياسات والقوانين النازية حتى سنة 1948م وكانت النتيجة كارثية ووصلت إلى حد المجاعة. وبعد هذا العام تغير الكثير من القوانين والسياسات وحدث التحول والمعجزة الاقتصادية الألمانية 1948م – 1960م حيث كان متوسط معدل نمو الإنتاج الصناعي الألماني خلال هذه الفترة أكثر من 15% سنوياً.

ألمانيا استطاعت النهوض في زمن قياسي لأنها لم تبدأ من الصفر فلو بدأت من الصفر فلربما استغرقت قرناً من الزمن لتصل إلى ما وصلت إليه خلال عشر سنوات فقط، ولكن الذي جعل المعجزة الألمانية ممكنة هو أن ألمانيا تملك الخبرة والمعرفة التراكمية الضرورية لبناء ثورتها الاقتصادية والمتمثلة في رأس المال البشري؛ أي الإنسان الألماني المدرب وصاحب الخبرة والمعرفة التراكمية التي اكتسبت من خلال العمل الدؤوب والتجربة العملية، ومع مرور الزمن أصبح أكثر كفاءة وفاعلية وإتقاناً لما يقوم به وهذا هو العامل الرئيسي الذي ساعد ألمانيا على النهوض في زمن قياسي.

ونفس الشيء ممكن يُقال عن اليابان البلد الذي دُمر في الحرب العالمية الثانية واستخدمت ضده أبشع الجرائم الإنسانية على الإطلاق وأذل وأهين وحُجم اقتصادياً وعسكرياً ولكنه نهض من بين جثث الموتى وركام المدن المدمرة في ملحمة تاريخية تشبه الأسطورة الأغريقية لطائر الفونكس (Phoenix Bird) الذي يستعيد الحياة ويحلق طائراً من بين الأنقاض. قصة المعجزة الألمانية وقصة النهوض الأسطورة لليابان هي قصة الاستثمار في الإنسان.