-A +A
علي بن محمد الرباعي
انتفش رأس الفقيه منذ اختاره شيخ القبيلة كاتباً له، وبدأ يشوف نفسه على الجماعة، ويزعمها، وما يقطع رأسه سبعة سيوف. يلبس ثوباً مدولق، وغترة زبد الرخال، وعقال مقصب، ويتصدّر المجالس بالمشلح الحساوي، دون اعتبار أو تقدير لمقام العريفة، وكلما طرح أحدهم سؤالاً على العريفة يتلقف ويجاوب مردداً «أنشدني أنا العارف وأعلّمك» بل وتجرأ وبدأ التحريض على كبيرهم، ويتهدد ويتوعّد «عريفتكم أبو الروايا بننبُله نبلة مسعود والشَّر ما يعود، وتعود العرافة لمغرسها».

اختار المؤذن، وثلاثة من مجاوري المسجد، وانفرد بهم بعد صلاة الفجر، ورمى عمامته في حثولهم مطالبهم بحفظ السِّر، ودعاهم للمرافقة، يغدون يدقون في العريفة عند شيخ القبيلة، ويعبون رأسه وصدره عليه، ويقولون: يا شيخنا آهو يتلحقك في المجالس بكلام ما يجمّل قايله، ويقول عنك ما أنت شيخ قول وفعل وصحفة.


تواعد معهم بعد ما يهبط العريفة للسوق ينصون شيخهم، وعاهدهم بالله إن حطه الشيخ عريفة، ليكونوا الموامين اللي قولهم يعدي من فوق شارب الزعلان. طاوعه المؤذن غصبا، ورفض الثلاثة، وقال أحدهم: منين نجيب لك عريفة على هواك، زكاة الجُرْب مِنْ طرفها.

مشى هو والمؤذن من المسراب الغربي تفادياً لبيت العريفة، وقصدوا بيت الشيخ في قرية على طريق هباطة السوق، وإذا بالعريفة صادر فوق حمارته. لما حاذاهم قال: ولعون، قالها بصوته الجهوري. رد المؤذن الله يعينك بصوت مرتفع. والفقيه بصوت خافت، دنّق ومد يده في الخُرج وناول كل واحد منهما حبة خوخ فدري من خوخ بيده. تعفف الفقيه وتردد، فقال: خذها ما ضريت بالهيالة في حياتك. وتحرك وتركهم، وفي نزلته من أعلى الوادي شد خطام الحمارة «شوش شوش» لتهدي سرعتها في الندرة.

المؤذن شاله الراقف، ونظر للفقيه قائلاً: «يا خجلتنا يا فقيه السكون. شرهتانا من العريفة، الله يا هبها في وجهك والله إن ودي يكون انشقت الأرض وبلعتني». علّق الفقيه: عليش تخجل وتتشره، ما يسميك إلا ديكان، وما تشوف صدره دالع ما معه حتى مشبك يزرر به ثوبه طبسان. انفعل المؤذن وبحكم موهبته الشعرية قال: «كِسْوَتك مِن خس بزّا، وأنت بالونعم تهزّى، واحمد الله خالقي ماني بشمّات».

عادا للقرية، بعدما سمعا من الشيخ ما يكدّر خاطر الفقيه، علّق المؤذن: ذُقها. وفي مدخل القرية واجها العريفة، فقال: عدوا تقهووا، فانفلت الفقيه: ما نتقهوى عند رجال ما يصلي معنا الصُبح، أنت من حطك عريفة علينا وأنت دخيل علينا، وعاهدك بالله لنقتلع العرافة منك ونردها في محلها ويرفع صوته ويندف صدره ببطن كفه.

اقترب العريفة منه وبهدوء مد كفه ولزم إذن الفقيه اليمنى، وفركها بالسبابة والإبهام، وقال بلغة مُهدد واثق: تنقلع إذنك إللي كما أذاني البهم السُّك من جنب صفحك والعرافة ما تنقلع من بيتنا. وتراك يا فقيه ناقص في عيون الرجال حتى النقا ما ينقّون بك ما تجزي مثل الأضحية الشرماء، وما حد بيطاوعك يا قلحان.

التفت للمؤذن، وقال: وراك ما كان استرحت من مشوارك مع العيفة، وقعدت تقابل حمامة؟ وأضاف: أثرك يا مؤذن مغاوز تلعب على الحبلين. صدق من قال الديك ديكة ولو صفّق بجنحانه. علّق: كلام ينفر به الهوا يا عريفتنا، سوّد الله وجه اللي ورّطني، والله لو ما هددني بشيلتي من الأذان ما أطاوعه، وصدقت حمامة أنا دفعها «يا ساق وديتني للمُحقرة ولقيتها».

دنّق بغى يسلّم في كفه. قال: لا تسلم ما حزيت، وأنت معرقك طيب، لكن لا تغدي قوادة يتسحبك الناقص والباقص. علّق: والله ما أدري وين أودّي وجهي منك.

سمعت القرية أن العريفة اتفق مع حمود اليماني يصلي بالناس، وفرّغ له العالية يسكن فيها بعياله، وبلغ الفقيه الخبر وأمسى في أطول وأخس ليلة. يتقلب شمال، ويمين، وكلما سألته زوجته وشبك يا عِرْبي كنك ملقوص يتلوى من السم. قال بضيقة: ارقدي مرقد، آهي نبّتك وكلها من تحت رأسك تتلقطين الهروج وتحقنينها في كور الدباة حتى طاوعتك وهبيت رأسي برأس العريفة، وتوهمت الشيخ بيطاوعني بعدما صرت كاتب عنده، وما غير أخذت لي عداوة والفقاهة بيعطيها اليماني وأنا أقعد أنقّع ضروسي.

ما أضحى النهار إلا وهو، بطبخته، والحوايج، وصحن تمر في بيت العريفة، سلّم وطبع قبلة على رأسه، وقعد جنب الملة، وتناول المنفاخ، وشب القبس، وحمس البُن، ودقه، وجهّز المصفاة المبهّرة، وقرّب صحن التمر، وصب الفنجال للعريفة، ولم يصب لنفسه، فقال العريفة ؛ تقهو، بغى يتهرّج. فقال العريفة: لا تُقل شيء، أعجبتك نفسك وبغيت تزهق، ولو حسّبنا حساب الفرفر ما ثبّينا المِحْجر. تناول كفه وسلّم فيها وجه وقفا ولقاه ظهره.

كاتب سعودي

Al_ARobai@