-A +A
طلال صالح بنان
لا يمكن فصل القضاء عن السياسة. بالرغم من القول بحيدِية وتجرد وموضوعية القضاة، فإنه لايمكن فصل وضعهم وعملهم، حتى أحياناً أحكامهم، عن البيئة السياسية لمجتمعهم. حتى مع زعم الأخذ بفصل السلطات واحترام استقلالية القضاء، فإن تقلد مراتب ودرجات القضاء، ليس بعيداً عن إجراءات تعيين القضاة.. وتحديد مرتباتهم وامتيازاتهم وحصاناتهم... بل وحتى إجراءات عزلهم.

هذا وضع السلطة القضائية، في كثيرٍ من الدول. في الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال: رغم تأكيد الالتزام بمرجعية الدستور فإن القضاء هناك مسيس، بدرجةٍ كبيرة، من الصعب معها الجزم باستقلالية القضاة، وضمان نزاهة أحكامهم، بثقة مطلقة.


في الولايات المتحدة إجراءات تعيين القضاة، برغم الحرص على كفاءة القضاة المهنية وتأهيلهم وخبرتهم وعلمهم وفقههم، إلا أن اعتبارات السياسة تتدخل في المفاضلة عند اختيار القضاة وتدرجهم في مراتب السلطة القضائية. المحكمة الدستورية العليا، على سبيل المثال: بها الآن ستة أعضاء رشحوا من قبل رؤساء جمهوريين وصودِقَ على تعيينهم من كونجرس أغلبيته جمهورية، بينما ثلاثة فقط يمكن اعتبارهم من خلفية ليبرالية ديمقراطية.

إلا أنه يتعين الإشارة هنا: أن القضاة في الولايات المتحدة يتمتعون باستقلالية كبيرة. لا تستطيع أي من السلطتين الأخريين أن تمس امتيازات القضاة أو تتعدى على حصاناتهم... دعك من إمكانية عزلهم. لكن القضاة هناك، بعيداً عن الإحراج السياسي المباشر يميلون في أحكامهم لخلفيتهم الأيدلوجية، خاصةً في القضايا، التي تُصنف حزبياً.

إلا أن القضاء تَرفّع عن ما زعمه الرئيس السابق ترمب من حدوث تزوير في نتيجة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ولم ينظر في أكثر من ستين قضية رفعها في الولايات التي انهزم فيها، رغم أن بعض القضاة جرى تعيينهم من قبل إدارته. كما رفضت المحكمة الدستورية العليا طلباً مباشراً من الرئيس للنظر في قضية التزوير تلك، ملتزمةً بأولوية اختصاص القضاء المحلي بالولايات.

يتجلى القضاء السياسي، في الولايات المتحدة، بوضوح عندما يوكل إلى المؤسسات السياسية الرسمية. يوم الأحد، قبل الماضي، برأ مجلس الشيوخ الرئيس ترمب من قضية عزله التي رفعها مجلس النواب، بأغلبية 57 صوتاً، منهم سبعة جمهوريين، حيث تتطلب الإدانة ثلثي عدد مجلس الشيوخ (67) شيخاً. لا يمكن وصف محاكمة الرئيس ترمب في مجلس الشيوخ امتداداً للقضاء المدني، ولا بأي صلة لها بالقضاء، بوجهٍ عام.

محاكمة مجلس الشيوخ للرئيس ترمب، كانت سياسية، بامتياز. لم تسبق تلك المحاكمة تحقيقات.. ولم تتطلب مثول شهود.. ولا إحضار متهمين، ولا حتى هيئة محلفين عامة. لقد كانت المحاكمة سريعة وأحكامها متوقعة سلفاً، وكان مطلوباً الانفضاض منها سريعاً، ليتفرغ الكونجرس لمناقشة أولويات أجندته السياسية، في عهد الإدارة ودورة الكونجرس الجديدتين.

مما يجعل النظام الديمقراطي أفضل أسوأ أنظمة الحكم، كما يقول تشرشل: احتمال تقلد الأوتوقراط والمستبدين السلطة.. بالإضافة لاحتمال تسييس القضاء.. وضعف معادلة الفصل بين السلطات، في تحديد معالم وصلاحيات كل سلطة بين أفرع الحكومة الثلاثة.

كاتب سعودي

talalbannan@icloud.com