-A +A
فؤاد مصطفى عزب
كي يصل المرء الى مرحلة العطاء الفكري فذلك لأنه يحمل في طياته آراء جميلة خلاقة، وتجارب حيوية حياتية تؤثر في الآخرين.. وربما أيضاً في الوضع المتعلق السائد في حياة كل شخص فينا، بداية من غرفنا الخاصة بنا.. ونهاية بالأنظمة المختلفة.. ومرورا بالمجتمع بكل أشكاله وإشكالاته يتم ذلك عبر الكتابة، فالكتابة هي مرتفعات العمر وبراكين الحاضر ووديان الماضي وهضاب الذكريات والأوجاع. عبق جميل لا يشبه أي عطر ولا أية رائحة، إنها الحاسة العاشرة. لغة القول التي تستقطب القلوب كالمطر، يستقطب الأرض فينعشها. وجمال الكتابة أنها تجعلك تركض في قراءة الحياة، دائماً تظل في حالة عطش وظمأ معرفي.. تشعر وأن الماء كله لا يكفيك، فعندما تجد معلومة جديدة أو كتابا قيما أو رواية تضفي عليك وأنت تقرأها حبوراً خفياً.. تلتهمها كجائع دهر.. يحتفل على مائدة الأمراء.. لذا عندما أطلق الدكتور والكاتب المتميز (أحمد العرفج) على نفسه لقب (عامل المعرفة) أصاب عين الحقيقة وارتفع منزلة عن غيره ممن لا يتابع الجديد.. مما يجعله يتوقف عند نقطه معينة يكررها ويعيد إنتاجها، فكلما تقرأ يتحرك شاطئ العقل ويأتي بالمزيد من الأمواج كأنك تمتطي خيوطاً ما.. تتدلى من السماء. كل ذلك يجعل منك نخلة صامدة ناضجة الثمار لذيذة الطعم. إلا أنه يتدخل العمر والمرض في حياة الكاتب أحيانا، هذا القاسي الذي يتجول بحرية تامة في بندول العصور ويجعل حياتنا مرهونة بالوقت بين عقارب الساعة التي تشاكس بعضها البعض.. وبين عقارب ترحل وتعود يتدخل وبعنف متضامنا مع المرض ليكسر طوق الكلام ويمسح ذاكرة القلب، ويجعل الكاتب كمن يصل النهر ولا يستطيع عبوره، ويحيل الحياة الى غسق يملأ الكون كما حصل مع (جبرييل غارسيا ماركيز) الذي تمنى في لحظة ضنك حياة أخرى ليقول ما تبقى لديه!! وهو لا يختلف في ذلك عن اليوناني (نيكوس كانتزاكي) مؤلف زوربا اليوناني والذي كتب روايته الشهيرة وهو على فراش الموت. لم يكن خائفا من الموت قدر خوفه من الرحيل قبل أن يتم روايته فكان يقول لزوجته: «بودي لو أنزل الشارع وأستجدي من كل مارٍ أن يمنحني عشر، أو خمس دقائق من عمره، حتى يتسنى لي إنجاز أعمالي المتأخرة» وفعلاً لم يُسْلِم الروح، رغم مرضه حتى تمكن من إرسال مخطوطته لتلميذه.. كانت تلك الرواية من أصدق وأجمل أعماله، ربما لأنه كتب كل ما عنده دون خوف أو تأجيل، فهو مدرك بأن ما لم يكتبه في تلك الرواية لن يرى النور أبدا.. غير أن هناك من يبخل بالكلمة وهو في قمة عطائه كما حدث مع الروائي الأمريكي (فيلب روث) الذي أعلن مؤخراً اعتزاله الكتابة بعد نصف قرن من الإبداع، وبعد ما يقارب من الثلاثين رواية أعطته شهرة ومالا، لكنه نال أيضاً ما وصفه «بالحرمان الأبدي من الحياة» ولذا قرر راضياً ان يعيش ما تبقى له من الحياة بلا حرمان. وكثيرون من الكتاب أعلنوا توقفهم عن الكتابة ثم عادوا إليها كالشاعر العراقي (بلند حيدري) وكذلك (أدونيس)، ولقد ختم الكاتب الأمريكي الشهير (وليم سافاير) عمله في صحيفة نيويورك تايمز بمقال قسمه إلى أربعة أعمدة: واحد عن قراره بالتقاعد، والثاني عن أهم الموضوعات التي كتب عنها، والثالث عن علاقته المهنية مع زوجات الرؤساء، والرابع وهو الأهم نصائح إلى كتاب الرأي يقول فيه «لا يمكن تحديد العمر الذي يتوجب فيه على الكاتب التوقف عن الكتابة، فهذا ليس هو معيار كفاءته أو صرفه من الخدمة.. ولكن يمكن للكاتب نفسه أن يستشعر اللحظة التي يجب فيها عليه الكف عن الكتابة، فهو الرقيب الذاتي على نفسه إذ إنه حتى وأن أبقت الصحيفة على زاويته، احتراماً لتاريخه.. إلا أن الانسحاب في لحظة المجد أشرف من التآكل بالتقسيط قبالة جمهور القراء» صح لسانك يا وليم!!

كاتب سعودي


Fouad5azab@gmail.com