-A +A
ريم بنت عبدالخالق
تداولت وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية في الأيام الماضية ما جاء في حديث صاحب السمو الملكي الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز، وتحديداً ما كشفه سموه عن متاجرة السلطة الفلسطينية بقضية بلدهم وشعبهم على مدى عقود طويلة من الزمن..

إن ما ذكره سموه في لقائه التلفزيوني أثار في أذهاننا ذكريات مواقفهم عبر السنين ومتاجرتهم ليس فقط بأرضهم وقضيتهم وإنما بهوية أجيال من شعبهم وحلمهم بالسلام جيلاً بعد جيل..


تاجروا بأراضيهم وعتبات بيوتهم التي ما عرفت إلا رائحة الخبز الساخن وضحكات أطفالهم وخطوات الدبكة في أفراحهم..

هذه النعمة التي لا يعرفها إلا من تجرع مرارة اللجوء وبرد المخيمات وفقرها وقسوتها، أو الذي قضى عمره غريباً يضرب في أصقاع الأرض في رحلة ذهاب بلا عودة..

تاجروا بغفوة فلاح في الظل تدغدغ فيها أنفه نسمة تحمل رائحة برتقال يافا..

أو أسماك في شبكة صياد على شواطئ حيفا يعود بها آخر النهار لأبنائه..

تاجروا بعرق الأمهات الذي يقطر فوق ضحكاتهن وهن يعصرن زيتون الناصرة أو يطهين الصابون النابلسي..

تاجروا بمواضع سجود جباه المقدسيين التي ما عرفت يوماً إلا الكرم والكرامة..

إن ما سرده سموه من مواقف مشينة موثقة ومؤرخة بخزي للقيادات الفلسطينية لم يكن فقط كمن وضع عدسة مكبرة على تفاصيل الخريطة السياسية المتغيرة التي ظلت هذه القضية فيها ملفاً مفتوحاً في كافة المنظمات والمؤتمرات الدولية، ولكنه كان كمن وضع يداً امتلأت بملح دموع شرفاء هذا الشعب على جرحهم المفتوح الذي طال وجعه..

هؤلاء الساسة الذين لا يريدون حرباً ولا سلماً وما عرفت إرادتهم يوماً إلا ما ابتغته مصالحهم كأشخاص، ولو على حساب كل الفرص التي توالت باختلاف المراحل السياسية والتغيرات التي مرت بها المنطقة فظلوا يساومون مساومات مفتعلة معتنقين أسلوب التنديد الكاذب والتهديد الأجوف، وحنطوا جسد القضية ليظل معروضاً في كافة المحافل فيدِرّ عليهم ما يملأ أرصدتهم..

باعوا كرامة شعب وماضيه وأحلامه.. وقبضوا الثمن.

ولأنه من أبسط مبادئ التفكير المنطقي أن لا تتعامل مع المشكلة كل مرة بنفس الأسلوب ثم تنتظر نتائج مختلفة، فقد حان الوقت لأن ينظر العالم لهذه القضية بمنظور مختلف، فاختلاف التعاطي معها -منطقياً- سيولد نتائج مختلفة لا يطمع كل فلسطيني حقيقي منها بأكثر ولا أقل من السلام العادل الذي قد يحقق لهم ما لم يحققه ساستهم طوال سنوات، من تعايش سلمي وحياة كريمة تحفظ -على الأقل- لكهولهم ولو ركعة في أولى القبلتين، هؤلاء الكهول الذين خرجوا قبل عقود من بلادهم حاملين أبناءهم وانكسارهم على أكتافهم معلقين في أعناقهم سلاسل تحمل مفاتيح بيوتهم، تاركين وراءهم شواطئهم ومزارعهم وعرقهم الممزوج بترابها وآثار خطواتهم المنكوبة الثقيلة تعبر الحدود في اتجاه واحد بلا رجعة.

فإن لم تكن ركعة في حياتهم فعلى الأقل متراً مربعاً من تراب وطنهم تسجى فيه أجسادهم بعد موتهم..

إن من يتمعن في حديث سمو الأمير بندر بن سلطان لا يملك إلا أن يصفق بقلبه قبل يديه لأنه قال كل ما بقينا عمراً نشهده ونشاهده وتمنعنا شيمتنا أن نصرح به حتى أمام أشد مواقف السلطة الفلسطينية عداء لنا أو تهجماً علينا..

للأسف القيادة الفلسطينية بقيت أزمنة كمن يمد يده لشعبه ليخرجه من حفرة عميقة بينما خبأت السلّم وراء ظهرها..

فهم لم يمثلوا يوماً إلا أنفسهم وأمثالهم ممن اعتنق منهجهم السياسي المتلون، أو من جيل ممسوخ الهوية احترف التلقين لم يعرف يوماً معنى الوطن.

أما شرفاء هذا الشعب أصحاب القضية العادلة فهم لا يبحثون إلا عن السلام الذي يمكنهم من أن يتحسسوا تراب وطنهم ويتنفسوا هواءه كلما أنهكتهم الغربة.

إن حبي لوطني علمني معنى حب الأوطان، ولكن من كرم الله علينا أن حمّل أمانتنا كرعية لولاة أمر عرفوا معنى الأمانة فصانوها وكانوا وما زالوا أصحاب مواقف مشرفة في كافة القضايا تجعلنا مرفوعي الرأس أينما حطت رحالنا، فخورين بانتمائنا لهذا البلد الطاهر الذي ترخص أرواحنا وأرواح أبنائنا فداء ذرة من ترابه.

وشتان بين من يسهر على راحة رعيته وأمنهم ورفاهيتهم وبين من يتاجر بهم وبكرامتهم ومستقبلهم تحت شعارات زائفة ومطالب جوفاء لم يدفع ثمنها سوى كل فلسطيني أراد السلام.

* غصن زيتون:

في القدس لو صافحتَ شيخاً أو لمستَ بنايةً

لَوَجَدْتَ منقوشاً على كَفَّيكَ نَصَّ قصيدَةٍ

يابْنَ الكرامِ أو اثْنَتَيْنْ..

في القدس، رغمَ تتابعِ النَّكَباتِ، ريحُ براءةٍ في الجوِّ..

ريحُ طُفُولَةٍ..

فَتَرى الحمامَ يَطِيرُ يُعلِنُ دَوْلَةً في الريحِ بَيْنَ رَصَاصَتَيْنْ..

تميم البرغوثي

كاتبة سعودية

r.a.k.saudiarabia@gmail.com