-A +A
فؤاد مصطفى عزب
عندما كنت طالباً في الجامعة تعرفت على طالبٍ يدعى (بول جرين) عمل بعد تقاعده من وظيفته الأولي، كمدير لمتجر (وول مارت) المجاور لمنزلي، والمتجر كما هو معروف يبيع كل شيء، من الإبرة للملابس للأدوات الكهربائية، لرغيف الخبز، وكل ما يخطر على بالك، في أي وقت من النهار والليل، أتوقف عند مكتبه أحياناً عندما أكون هناك، وأتحدث معه، ولقد شرح لي مرة، فلسفة متاجر (وول مارت) باختصار، فقال «أن تعطي مقابل كل دولار، يدفعه الزبون كل ما تستطيع من قيمة لوجوده ورضاه ولن تخسر أبداً»، وشعاره اشتر بضاعتك بسعر جيد، وبعها بسعر زهيد وخلال ذلك ابتسم، في هذه المرة التي زرته فيها، وجدت زوجته المتقاعدة أيضاً، تعمل معه في نفس المكتب!! قلت له ممازحاً، هذا استغلال للسلطة!! أجابني وبسمة خبيثة على فمه، عندما تكون متقدماً في السن فقد تفلت من أشياء كثيرة دون عقاب، وأكمل يا صديقي بدأت زوجتي بعد تقاعدنا تهتم بالحسابات المنزلية الشهرية أكثر، ومنذ ذلك الحين تعرفت عن قرب على قدرتها في التعامل مع الأرقام، وبطريقة مدهشة، وتدقيق فواتير التجار، وهذه موهبة لم أكتشفها فيها إلا بعد تقاعدنا، غير أن تلك المراجعة لا تأخذ منها سوى أيام معدودة، ومن هنا فقد وجدت أنها فكرة جيدة أن أستعين بها لتساعدني في قسم المراجعة المحاسبية اليومية بالمتجر، قالها وزهو كبير يكسو سريرته، ودعته وتقدمت من سيدة مسنة تقف خلف نقطة محاسبة مبيعات، كانت تضع طوقاً حول رقبتها، مصنوعاً من مادة تبقي الذقن مرفوعاً إلى أعلى، تقول لي معتذرة، وهي تحرك ما قمت باختياره من مشتريات فوق السير الجلدي الأسود، أنه لا يؤلمني، لكنه لا يمكنني من تحريك رأسي أبداً، لا إلى اليمين، ولا إلى الأعلى، أو الأسفل، كل ما يمكنني عمله هو أن أحدق في من أخدمه وأبتسم، وتستغرق في الضحك وهي تردد، أنها آلة تعذيب جهنمية، تباً لهؤلاء الأطباء، سألتها ألا تشعرين بالتعب من العمل وأنتِ في هذا العمر؟ قالت لي لو لم يتوفر لي هذا العمل لمت تعباً من السأم!!

وفي الوقت الذي أستشعر رعشة لذيذة تدغدغ بدني كلما زرت هذا المتجر، الفائض بالحياة، كشجرة تحتفي بأصولها الشجرية القديمة، من قبيلة البشر المترعة بالنشوة والشبق لأصل الإنسان الذي يعشق لذة الاستمرار في العمل وقدرة العطاء يستبد بي الغضب، ويحتلني وجعٌ ليس لأي مبضع قدرة على استئصاله، وعذاباتي مصدرها، شعوري تجاه المتقاعدين في بلادي، بعض رفاق العمر ممن وقعوا في فخ التحول إلى لسان كبير يهزأ بالكائنات الصغيرة، ونادبة استمرار النواح، فالمتقاعد ما إن يترك الوظيفة التي عمل بها لسنوات طويلة، حتى ينتابه شعور ذلك الرجل الشرقي، حين تدير امرأة ظهر قلبها له، رغم حبه الجارف، يتحول إلى وجه طفل يلعب (الاستغماية) مع الحياة، يطل مرة ويغيب مرات، ينزلق على جدار هذه الحياة بسكون أخرس، بصمت يشبه صمت الثلج، دائما يفكر في شكل النهار كيف سيكون؟ والسؤال الذي يتكتك في شرايين القلب، ويهاجم الفرد منا كخنجر يغرس نفسه في الخاصرة في كل تكة من كل التكات، وما الذي يمنع المؤسسات والشركات الخاصة من الاستعانة بهؤلاء المتقاعدين الراغبين في الاستمرار والحصول على فرصة أخرى ليساهموا في سقي عطش الوقت، ولينتشروا كنهر في سهل، في زمن يمنحك الجفاف صحراء من رمل دون أن يعي فداحة ما يحدث، إن التجاعيد التي تنمو على جبين المتقاعد، والأخرى تحت العينين، والشعر الأبيض الذي يضج به الرأس والذقن، ليست أمارة لتقدم العمر فقط، ولكنها مؤشر العودة إلى الوراء، الإحساس بالذهاب نحو الموت، وبياضه الأبدي، كل تلك الأحاسيس.. لم تكن معه وهو يعمل، ذلك لأن العمل عقار، لا يعالج تجاعيد الوقت فقط، بل يذيب تجاعيد الروح أيضاً!!


كاتب سعودي

Fouad5azab@gmail.com