-A +A
منى المالكي
لم تحظ ظاهرة نقدية بالدراسة والتشريح والتفكيك كما حظي المكان! فهو ذلك الحيز والفضاء الذي تعددت مسمياته ولم يلامسه أحد! فمع اقترابه الشديد من مراكز الوجع في بؤرة الروح يبقى بعيدا عن الامتلاك الكامل عصياً على الإذعان يعجز أحدنا عن سبر أغواره مهما تصور أنه قادر على ذلك.

ويظهر المبدع (شاعراً أو روائياً أو فناناً تشكيلياً أو نحاتاً أو مخرجاً سينمائياً) بنفث سحره على المكان الأثير الذي أراد رسمه وتقديمه لنا لنعيش ذات الوجع أو الفرح الذي عاشه، ولكن هي مجرد محاولة فقط لأن المكان زئبقي ما عشته زمناً قد يتغير الآن فقد أصبح طللاً عاشه قلبك يوماً وربما تصادره روحك الآن!!


منذ القدم عاش العربي (عشق الطلل) وبدأت معلقاتنا القديمة بالوجع لفقده، وبكينا واستبكينا وقادنا امرؤ القيس إلى غياهب الحب لتلك البقعة من المكان المتخيل وظل السؤال قائماً: ماذا لو بقي المكان عامراً والحبيبة في الانتظار هل سيستمر الوجع والشوق للمكان حاضراً؟!

ويستمر عشقنا الأزلي للمكان حتى قادنا إلى نوبل مع العظيم نجيب محفوظ عندما عنون معظم رواياته الخالدة بأسماء لأماكن هي حارات مصرية حفظناها ونحن على بعد آلاف الأميال منها (قصر الشوق، السكرية، زقاق المدق، بين القصرين) وغيرها الكثير، لماذا كان كل هذا الوله لبقعة نهشت قلبك وما زالت عالقة فيك مهما خلت أن المنتأى عنها واسع؟!!

الإنسان العربي (رجلاً أو امرأة) عشق الترحال وفرضت عليه بعض المناطق الجغرافية الصعبة وضرورات الحياة التنقل وعدم البقاء في مكان واحد فهو في رحلة بحث ودوران دائمة، ومع ذلك تجده يفطر قلبك بذلك الحنين الجارف لمكانه الأثير، يغنيه شوقاً ويرفع صوته ألماً عندما يلوح له تذكار أو رائحة تجود بها ريح قادمة منه! ألم تغنِ ذلك العربي العتيد الحياة المتنقلة عن ذكرى تعلقه بدار عبلة وأطلال خولة؟

تعيدك ذاكرة المكان دائماً مهما حاولت التظاهر بالنسيان إلى تفاصيل وثنايا وتعرجات ذكريات مكان أثير، موجع، مظلم، مشع!! ما زالت رائحة عطره ملتصقة في باطن كفك وأنت تدير أغنيتك الخالدة «كل الأماكن مشتاقة لك» ليعانق روحك صوت أبو نورة دليلك المضيء إلى مكان هو سيدك المستبد!!

كاتبة سعودية

monaalmaliki@