-A +A
عبدالله الرشيد
في عام 1970 نشر مصطفى محمود كتابه «القرآن.. محاولة لفهم عصري» داعياً إلى قراءة القرآن وفهمه في ضوء النظريات العلمية الحديثة، من فلك وفيزياء، وكيمياء وجبر وحساب، وتفسير الآيات القرآنية بالمخترعات والاكتشافات العصرية في ضوء ما يعرف بمنهج «الإعجاز العلمي». اطلعت عائشة عبدالرحمن على هذا الكتاب، فانتفضت غاضبة من هذا «النهج الخطير»، و«المبدأ الدخيل» الذي يتطفل على الدراسات القرآنية، داعية لمواجهة هذه «الفتنة العصرية والمزلق المشبوه، والمخدر الذي يخدر عقول شباب الأمة». فشمرت عن ساعد قلمها، وسددت انتقادات عنيفة لتيار مصطفى محمود، وجماعة الإعجاز العلمي، واشتعلت هذه السجالات على صفحات جريدة الأهرام، ومجلة صباح الخير، وتدخل زغلول النجار مدافعاً عن مصطفى محمود، فعرجت عليه بنت الشاطئ ونسفته نسفاً بنقدها المتين، حتى تحدث محمود ذات مرة مشتكياً: «بعد صدور كتابي، القرآن محاولة لفهم عصري، هاجت الدنيا، وغضب الأزهر، وكتبت بنت الشاطئ 300 مقال في الرد علي».

عائشة عبدالرحمن، الشهيرة بلقبها (بنت الشاطئ) هي أستاذة أكاديمية في اللغة العربية والدراسات القرآنية، وقدمت أطروحات علمية عدة في التفسير والبيان، منها كتاب (التفسير البياني للقرآن الكريم) و(الشخصية الإسلامية - دراسة قرآنية).


كتبت بنت الشاطئ ردودها على مصطفى محمود، لم تكن تذكره بالاسم، وإنما تصفه بـ«الكاتب الصحفي»، تقول: «فجأة من حيث لا نتوقع، ظهر تفسير عصري لكاتب صحفي، مع ضجة إعلامية وحملة إعلانية عن حاجة الناس إلى تفسير جديد يلائم العصر، ويخرج للناس ما غاب عن النبي الأمي وقومه من عصريات التكنولوجيا، وحديث الطبيعيات، والرياضيات، وملاحة الفضاء.. وهذا كلام له مزالقه الخطيرة التي تختلط فيها المرامي، وتتشابه السبل، فتفضي إلى ضلال بعيد.. وهكذا باسم العصرية نغري الناس بأن يرفضوا فهم كتاب الإسلام بعقلية نبي الإسلام، ليفهموه في تفسير عصري من بدع هذا الزمان.. وباسم العلم نخاتلهم بتأويلات محدثة، تلوك ألفاظاً ساذجة صماء عن الذرة والإلكترون، وتكنولوجيا السدود، وبيولوجيا الحشرات، وديناميكا الصلب، وجولوجيا القمر..». تقول بنت الشاطئ: هذا ما نجنيه حين يتدخل الصحفيون في تفسير القرآن. «ففي ضجيج هذه الكلمات الطنانة الرنانة، وخلابة ما يقدمه التفسير العصري من عجائب وغرائب، تبهر البصر فتتعذر الرؤية الثاقبة التي تميز حقاً من باطل، وعلماً من دجل، وإيماناً من زخرف قول وبهرج بدعة، ويفوتها أن تفصل بين منطق تفكير علمي وجرأة ادعاء وطبول إعلان». تحدثت بنت الشاطئ بإسهاب عن مخاطر التفسير العصري، ونشرته ضمن كتاب «القرآن وقضايا الإنسان»، وقالت: «لا سبيل يؤمّن وجودنا سوى أن يكون فهمنا لكتاب الله محرراً من كل الشوائب المقحمة، والبدع المدسوسة، بأن نلتزم في تفسيره ضوابط منهجية تصون حرمة كلماته، فنرفض بها الزيف الباطل وفتنة التمويه وسكرة التخدير.. هذا بلاغ للناس اللهم فاشهد». حين بدأ العلم يستوي على أرض صلبة، وتزدهر المناهج العلمية التجريبية، كان المفكرون المسلمون في القرن التاسع عشر يتبعون منهج التوفيق، في محاولات قد يتفق معها البعض أو يختلف، كما عند الشيخ محمد عبده، وحسين الجسر، ثم ابنه نديم، وغيرهم، ولم يكن لأسلوب الإعجاز العلمي حضور أو اعتبار بين طبقة علماء الشريعة التقليديين، حتى جاء طنطاوي جوهري مطلع القرن العشرين، وفتح الباب حين قدم كتابه «تفسير القرآن الكريم المشتمل على عجائب بدائع المكونات وغرائب الآيات الباهرات» في خمسة وعشرين مجلداً، عام 1931، متأثراً بدراسات أوروبية عن العِلم والكتاب المقدس، حاول أصحابها مواجهة الثّورة العلمية الكبرى.

جاء التَّفسير مملوءاً بالكيمياء والفيزياء، حتى ينسى مَن يطلع عليه أنه أمام تفسير الكتاب الكريم، قال جوهري: «فأخذتُ أؤلف كُتباً لذلك شتى، ومزجتُ فيها آيات الوحي مطابقة لعجائب الصَّنع، فتوجهتُ إلى ذي العزِّة والجلال، أن يوفقني أن أُفسر القرآن، وأجعل هذه العلوم مِن خلاله»، ولهذا يعتبر كلَّ الذين نشطوا لإثبات الحقائق العلمية قرآنياً عالةً على جوهري. (انظر: رشيد الخيون، الإخوان والإعجاز العلمي للقرآن، الاتحاد). وطنطاوي جوهري كان أحد رموز جماعة الإخوان المسلمين، وجايل حسن البنا وبايعه، وترأس جريدة الإخوان المسلمين، وكان مسؤولاً عن فرع الجماعة بالقاهرة.

ولو رجع أحد إلى كتاب جوهري اليوم لربما وجد كماً هائلاً من النظريات العلمية التي اجتهد في ربطها بنصوص القرآن، قد أصبحت نظريات باطلة، أو نقضت بأخرى، وهذه أكبر إشكالية تواجه هذا النهج الذي يحاول أن يوظف النظريات العلمية في تفسير النصوص الدينية.

تقول بنت الشاطئ: إن هذه المحاولات العصرية لتفسير القرآن هي نتيجة لصدمة التفوق المادي للحضارة الغربية.. قدم طنطاوي جوهري تفسيره (الجواهر) فوجدت فيه الجماهير ما يريحها من مهانة الإحساس الباهظ بالتخلف، وتسلل مفسرون عصريون جدد إلى الميدان وقدموا محاولات ساذجة لتفسير القرآن لطمأنتنا بأننا سبقنا عصرنا إلى كل ما يتطاول به الغرب علينا من علوم حديثة، لكن كل هذا مجرد مخدر.