-A +A
محمد مفتي
منذ اندلاع ثورات الدمار العربي في عام 2011، انتشرت في تلك الدول جميع مظاهر الفوضى السياسية والاجتماعية بل والصحية أيضاً، وقد تمثلت في نشوب الحروب الأهلية المدمرة وانتشار عمليات السرقة والقتل الممنهجة والعشوائية، وما نتج عنهما من تردٍّ للأوضاع الصحية، وقد تم كل ذلك وأكثر منه على مرأى ومسمع كثير من الدول والمنظمات الدولية الراعية لحقوق الإنسان، والتي لم تجد من الحلول المطروحة أمامها سوى التنديد والتباكي على حالة الضياع والتشريد التي تعيشها شعوب تلك الدول، والتي تجاوزت أعداد القتلى فيها عقب سقوط أنظمتها الحاكمة أعداد من قتلوا خلال اندلاع تلك الثورات نفسها.

إن المأساة الإنسانية التي لحقت بتلك الشعوب تجاوزت تردي وضعها الإنساني إلى ما يمكن وصفه بسقوطها رهينة للقوى الإقليمية الطامعة، فتشرد ملايين اللاجئين بسبب أتون الحروب الأهلية التي دارت بين مختلف الطوائف، أعطى الضوء الأخضر لبعض الدول الطامعة في لعب دور استعماري، كتدخل إيران في العراق واليمن، وتدخل تركيا التي غزت أجزاءً من سوريا عسكرياً، واستغلت الوضع الفوضوي في ليبيا لبسط نفوذها هناك.


لم تحرك الدول العظمى ساكناً من أجل احتواء حقيقي أو جاد للكارثة الإنسانية في تلك الدول، وظلت لقرابة العقد ولم نسمع منها سوى بعض التصريحات المائعة عن ضرورة أن تتحلى جميع الأطراف المتنازعة بضبط النفس، وبعض التصريحات والتي إن نمت على شيء فإنما تنم عن انتهازية قصوى ولا مبالاة كاملة بمصائر الشعوب، فعلى سبيل المثال عندما أرادت الولايات المتحدة إسقاط بعض الأنظمة لفرض واقع جديد كالعراق وأفغانستان، لم تتردد في استخدام قواتها المسلحة لفرض هذا الواقع الجديد، وهو أيضاً ما فعله حلف الناتو (تحت قيادة فرنسا) لإسقاط النظام الليبي، ولا نبالغ إذا قلنا أن تلك الدول تجيد شن الفوضى فحسب، وعقب تحقيق أهدافها نجدها تسارع بالهرب تاركة شعوبها بين مطرقة الحرب الأهلية، وبين سندان الدول الطامعة إما لاستغلال خيراتها أو لفرض أجندة سياسية تتفق مع مصالحها.

وفي ظل تلك الفوضى العارمة يظهر وباء عالمي مستجد هو فايروس كورونا، ويصيب غالبية الدول -بما فيها العظمى- دون تمييز، وقد طالبت تلك الدول بالإسراع في اتخاذ مجموعة من الخطوات الاحترازية الهادفة لوقف تمدد انتشار هذا الوباء، غير أنه في ظل تسارع وتيرة تلك التصريحات المتتالية من بعض المنظمات الدولية استوقفتني بعض من تلك التصريحات والتي أتمنى من القارئ الكريم أن يعينني على فهمها، فعلى سبيل المثال طالب الأمين العام للأمم المتحدة بوقف إطلاق النار بكافة أرجاء العالم، بهدف التفرغ لمواجهة فايروس كورونا المستجد، كما دعا الطرفين المتصارعين في ليبيا إلى توحيد الجهود لمواجهة هذا التهديد، وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى جميع أنحاء البلاد دونما عوائق، وفي نفس السياق دعا مبعوث الأمم المتحدة الخاص بسوريا لوقف فوري لإطلاق النار في جميع أنجاء سوريا، للحد من انتشار الفايروس التاجي المميت!

ما أثار دهشتي في تلك التصريحات هو أنها تبدي ظاهرياً تمتعهم بإنسانية بالغة لا يشغلها سوى تجنيب الأهالي المزيد من الإصابات والوفيات، وهو الأمر الذي يثير التساؤل حول لا مبالاتها بالأعداد المتزايدة من القتلى جراء الحروب الأهلية نفسها، وبمستوى الدمار للبنى التحتية وتدني مستوى منظومة الرعاية الصحية، كما يتجلى النفاق السياسي في تصريحات النظام الإيراني حيال ضرورة توحيد الجهود لمواجهة هذا الفايروس، وفي الوقت نفسه تغذي أزلامها الحوثيين بالتقنيات والمعدات للاعتداء على المملكة، وكان الأولى والأجدر بها الاهتمام قليلا بأبناء شعبها الذين تتزايد فيهم أعداد المصابين والوفيات.

ولعله من المثير للسخرية أن بعض قيادات الأطراف المتصارعة من أبناء تلك الشعوب التي مزقتها الحروب الأهلية أطلقوا بعض التصريحات عن ضرورة وقف مؤقت للحرب المشتعلة بين الأطراف المتنازعة للتفرغ لمواجهة الفايروس (لحماية المواطنين!) حتى تمر الأزمة بسلام، وبعدها.. يتم اسئتناف القتال مجدداً ليحصد المزيد من القتلى والجرحى وينشر المزيد من الفقر، في الحقيقة.. أثارتني كثيراً تلك التصريحات الإنسانية ولم أشعر إلا بدموعي وهي تنساب بتلقائية بسبب تلك الإنسانية المفرطة التي أبدتها تلك الأطراف المتصارعة الشفوقة والعطوفة والحنونة تجاه أبناء شعوبهم، ولم أتمالك نفسي حتى وجدتني أتنهد مردداً بيني وبين نفسي: ولله في خلقه شؤون!.

* كاتب سعودي

Prof_Mufti@

dr.mufti@acctecon.com