-A +A
فؤاد مصطفى عزب
أنحني للصباح، لبوابة الأمل، الصباح بداية أمل، أمر من تحتها بخجل الفقراء، بوابة عالية تحدها السماء، أنحني لشعاع الشمس، لدورة الدفء، كحصان أمد عنقي في هواء رباني، أرافق زوجتي لمراجعة طبيبها المختص في (مستشفى الملك فيصل التخصصي) بجدة، أجدد الأمل في شفائها، أجدد الأمل دائما في هذا المكان، قصص لا تنتهي هنا عن كفاءة وطنية طبية متميزة، هذه واحدة حول جراح عظام فذ وزميله، جراح متواضع تواضع القمح، يوزع الفرحة بدون حساب، على المرضى، ويفرش الأرض تحت أقدام المكلومين سجاجيد ملونة، التقينا بها أنا وزوجتي في (كفتيريا المستشفى) بعد أن خلصنا مما حضرنا من أجله، كانت كزجاجة مياه غازية، قام أحد بخضها وبقوة، فأخذ الجميع يسبح بعد ذلك تحت نافورة الكلام، كانت سحابة تبحث عن أرض شقيقة لتفرغ عليها كل ما تحمل من مطر، ذكرت لنا قصتها مع ذلك الجراح، قالت كنت في الـ٣٥ من العمر، أعاني من مرض الروماتيزم، وقمت بتغيير الحوضين والركبتين، غير أنني فجأة أصبحت أعاني من استحالة تحريك كوعي تماما، من ذاك اليوم تحولت إلى مربع من الكلمات المتقاطعة في جريدة يومية، كل مربع يسكنه الحرمان والذل والعار والألم، أصبحت أتمنى الموت كل يوم، تحولت إلى مقبرة مكشوفة للسماء، أقسى شيء كان يواجهني أن كل ما أحاول أن أخفي عجزي، تفضحني الأماكن العامة، كنت أبتعد عن الأماكن العامة كحقيبة بكاء تخفيها امرأة تحت عباءتها، فأنا لا أستطيع أن آكل كغيري من البشر أو أشرب أو أمسك بأي شيء، كنت أتناول طعامي كالبهيمة، من الصحن مباشرة، ألتقط كل شيء بفمي لا بيدي، كنت أركع على الصحن حتى يصل لساني إلى محتوياته، ليسهل علي تناول طعامي، تيبست مفاصل كوعي، فأصبحت أستنشق رذاذ الألم في كل لحظة، ثم ظهر ذلك الجراح السعودي في حياتي كشهاب سديم في السماء، أخبرني أنه ينتظر الحصول على مفصل لكوعي من بريطانيا، وحال وصوله أبلغني بأنني سأستطيع ممارسة حياتي الطبيعية من جديد، قالها وبكل ثقة، كنت أنظر إليه، كمن ينظر لحجاب قديم يحوي سراً، وكما في حكاية خرافية، وكأن أحداً وضع سبابته على نقطة مضيئة على خريطة حياتي، قال لي «لقد وصل المفصل، وغدا سيكون نهاية رحلتك مع المعاناة»، وكلاعب ثلاث ورقات، كشف لي كل أوراقه، في عيادته وهو يشرح لي تلك العملية، وأخفى خلف ظهره ورقة واحدة، ورقة الأمل، كنت أنا وزوجتي نتجرجر وراء قصتها حافيين، وكانت هي تتفتح كوردة ضالة في البرد، استكملت، بعد العملية، وعند إزالة الرباط الضاغط، كنت أحرك كوعي، وبعد عشر سنوات، كنت فيها أطحن أعشاب الأسى كل ليلة، روت كل ذلك لنا ككتابة رواية في نفس واحد، ودون توقف، واختتمت، قلت له أنا لا أملك شيئا في الدنيا، ولكن نذرت كل يوم إثنين وخميس، ومع كل إفطار صيام لي، سأدعو لك، وحتى يتوفاني الله. حكاية نادرة، ولكن في هذا المكان الحكايات المشابهة التي يرويها المرضى عن التفوق العلاجي في هذا المرفق تتجاوز حكايات الجدات في الشتاء، تشبه كل حكايات ما غرسه الإنسان من زرع، وما أخرجه من ضرع، وما شيده فوق الأرض!!

* كاتب سعودي


fouad5azab@gmail.com