-A +A
محمد الساعد
بين قصف معملي بقيق وخريص السعوديين ومقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني، ثلاثة أشهر وبضعة أيام، حدثان مفصليان أثرا في المنطقة أيما تأُثير، عادت إيران إلى ما وراء حدودها السياسية التي بدأت منها ثورتها 1978، وتأكد للعالم أن هناك محورين في المنطقة أحدهما إرهابي ظلامي عنيف يدفع نحو التناحر والتقاتل تتبناه إيران وحزب الله والحوثيون، والآخر متمدن يبحث عن السلام والتنمية والمستقبل تمثله السعودية.

أثبتت السعودية أنها دولة مركزية لا تحركها ردود الأفعال، ولا تغتالها يد الإرهاب، وأنها مسؤولة وملتزمة أمام العالم بإمدادات الطاقة وتجنبت التأثير على الاقتصاد الدولي الذي كان من الممكن أن ينهار لو تباطأت الرياض في معالجة الأضرار أو أخفقت في ذلك التحدي.


على إثر القصف الإرهابي المتهور الذي قامت به إيران ضد المجمعات النفطية السعودية ظن الجميع أن الرياض وفي لحظة الصدمة ستقوم بأعمال عسكرية دفاعية ضد أهداف إيرانية ربما تدفع المنطقة لحرب مدمرة.

الرياض الحكيمة لم يغب عنها الخيار العسكري وهي تستخدمه في الزمان والمكان الذي تفضله على أن تكون نتائجه في مصلحتها ومصلحة شعبها وسبق وجربته في تحديات عديدة منها الوديعة ضد اليمن الجنوبي، وضد إيران نفسها منتصف الثمانينات عندما أسقطت المقاتلات السعودية سرباً من طائرات طهران وحددت خطاً وهمياً في عمق الخليج العربي شرق سواحلها حرمت عليها الاقتراب منه.

لقد أدركت الرياض لعبة طهران جيداً، وأدارت معركتها معها على المستوى السياسي والدبلوماسي دون الانجرار لمعركة عسكرية قد تستفيد منها إيران وحلفاؤها، ولا حتى القيام بهجمات محدودة يعقبها مفاوضات مباشرة تحت مظلة أممية وبضغط الخروج من الأزمة ما يعطي إيران أخيراً نافذة الفرج ويساعدها في الهروب من مأزق العقوبات الصارمة.

لقد كان المسرح الدولي جاهزاً للانقضاض على الرياض، فالإعلام اليساري متأهب والعواصم الغربية الحليفة لطهران والباحثة عن فرصة لإخراج إيران من عزلتها تنتظر انزلاق المنطقة للحرب لتتدخل بقوة مجلس الأمن وتفرض حلولاً لتخفيف الضغط الاقتصادي والسياسي عن إيران.

ولتنفيذ ذاك قامت المكنة الإعلامية المتحالفة مع إيران والممولة قطرياً ويسارياً بمحاولة إحراج السعوديين ودفعهم لأخذ موقف لا يناسب الظرف ولا الإستراتيجية السياسية للمملكة.

وفي خط موازٍ تبنى الاعلام المؤيد لإيران رواية طهران محاولاً تبرئتها «شعبياً» وحرف التهم إلى الحوثيين الذين ارتبكوا كما ظهر في أعقاب الحادثة، بل تأكد للجميع أنهم لم يكونوا حتى يعلموا بها.

الدهاء السعودي استطاع خلال ثلاثة أشهر أن يغير وجه المنطقة تماماً دون أن يطلق رصاصة واحدة.

ترك الإيرانيون يتمادون في غرورهم ويغوصون في وحل أعمالهم القذرة، زادت عزلتهم الدولية، واقتصادهم يتآكل، وفي هلالهم «الفارسي» انهارت لبنان التي جهزتها طهران لتكون حديقة خلفية وساحة لتهريب السلاح والمخدرات وغسل الأموال، انفجر الشارع العراقي بسنته وشيعته في وجه الاحتلال الإيراني، وفي سوريا وجد الإيرانيون أنهم وحيدون أمام العالم ويتم اقتناصهم كما الفرائس.

لكن الضربة القاصمة جاءت في مطار بغداد وعلى بعد أمتار من المقرات الإيرانية، بعدما أدرك العالم الحر بأن الجنرال «قاسم سليماني» هو الوجه القبيح للنظام الإيراني، وصاحب النفوذ والأموال والمكانة ومن يدير أربعة جيوش دفعة واحدة، ومن ينظم الأعمال الإرهابية في المنطقة ويمولها ويوجهها بما فيها قصف بقيق وخريص، ويمثل نظاماً غير مسؤول لا يمكن الوثوق به وربما يتهور أكثر موجهاً صواريخه نحو مواقع أكثر حساسية ليدمر العالم ويحرق المنطقة ومستقبلها.

جاء مقتله ليصب الماء البارد على كل معارك طهران الخاسرة وليقول لها بكل تصميم: إن تجاوز الخطوط الحمراء دولياً غير مسموح به ولا يمكن غفرانه وسيقضي عليها كما قضى على أنظمة قبلها أصابها الغرور وتمادت في أفعالها، وأن مصادر الطاقة لن يسمح بالعبث بها، وأن سليماني ليس سوى اسم في قائمة طويلة قد تصل إلى خامنئي نفسه، ومن يظن أن المسؤولين الإيرانيين محصنون فهو مخطئ بلا شك، فالقذافي وصدام وأنظمتهما عندما تجاوزت الخطوط الحمراء تم القضاء عليها وهو دليل لما يمكن أن يتخذ ضد أي قيادة سياسية متهورة وظنت أنها قادرة على الإفلات من العقاب.

* كاتب سعودي

massaaed@