-A +A
فؤاد مصطفى عزب
عندما كانت الرياح تتقاذفني على شاطئ الحياة، قضيت بعضا من أيام دراستي الأولى في أمريكا، أدرس مواد في القانون الصحي، كنت بشراسة ونهم الفهد الجائع، أسجل في مواد ليست لها علاقة مباشرة بالتخصص، كعادتي بالأخذ بكل شيء والاحتفاظ بكل شيء، أحاول أن أعرف أي شيء وعن كل شيء مهما بعد ونأى عني، كان إيماني ولا يزال أنه كلما حظيت بالتعرف على علم جديد، تفتح أمامك نوافذ جديدة، كان أحد معلمينا، بروفيسور في القانون الصحي يمارس عمله بإبداع ملون، يجعل مادته ومواضيعه شهية كالتين والعنب، يطرح علينا دائما قضايا مثيرة، يطلقها من جعبته مثل رمح أطلقه فارس جاهلي من كنانة، كان يسرد علينا كل ذلك كشاعر شعبي جوال، حكى لنا يوما عن «أجرأ عملية نصب في التاريخ»، والتي حدثت في إسكتلندا، حيث قام مواطن إسكتلندي اسمه «غريغور ماكغريغور»، باستغلال جهل وطمع الإسكتلنديين وعزلتهم عن العالم، حيث لم يكن في القرن الثامن عشر أي مستعمرة إسكتلندية، بدأ بنشر الإعلانات المدهشة في الصحف المحلية عن أرض «بويايز»، وأنه أمير عليها ومالك لها، وصورها على أنها أرض أكبر من «ويلز»، وخصبة جدا، ويمكن أن تنتج ثلاثة محاصيل من الذرة سنويا، وأن المياه فيها نقية ومنعشة، يمكنها أن تطفئ أي قدر من الظمأ، وأن فيها كتلاً من الذهب تمتد بطول مجاري الأنهار، وأن الأشجار تعج فيها بالفاكهة، وأن الغابات تنتشر في أراضيها وعلى مد النظر، وأنها صورة لا تختلف عن جنة عدن، صورة نقيضة لإسكتلندا المظلمة، الماطرة، ذات التربة الصخرية، وقال إن ما تفتقر له أرض «بويايز» هم المستوطنون والمستثمرون، والراغبون في تطوير مواردها والاستفادة منها على أكمل وجه، في ذلك الوقت، كانت الاستثمارات في أمريكا الوسطى والجنوبية تكتسب شعبية كبيرة، وبدأت «بويايز» أرضا جذابة للإسكتلنديين، كان الرجل خبير مبيعات وتسويق بارعا، لم يكتف بالإعلانات في الصحف المحلية، بل قام بإصدار كتاب، قام بتأليفه، مؤلف وهمي أطلق عليه «توماس سترنجيويز»، تبين لاحقا أن «غريغور ماكغريغور» هو المؤلف، وقام بإظهار عمله في الكتاب الذي يتحدث عن «بويايز» فيها صورته ويده مرفوعة تشير إلى أراض غناء، وجمع «غريغور» ما يوزي 1/‏3 مليون جنيه إسترليني، تعادل 3/‏6 بلايين في القرن العشرين؛ القرن الذي كنت أتلقى فيه دروس القانون، في سبتمبر 1822 ويناير1823 توجهت سفينتان إلى الأرض الأسطورية، تحمل المشترين وعوائلهم، بعد وصولهم إلى «بويايز» وجدو أن الواقع كان مغايرا وبشكل صارخ عن الإغراءات التي كانت في المؤلف والإعلانات، كانت أرضا قفراء لا فيها زرع ولا شجر، وانكشف الأمر بعد عودة عدد بسيط من الناجين الذين استطاعت إحدى السفن إنقاذهم أحياء ونقلتهم إلى مدينة «بليز»، في هذه الأثناء كان «غريغور» قد فر إلى فرنسا، وكرر المحاولة، غير أن الفرنسيين كانوا أكثر صرامة في إصدار جوازات السفر، حيث تبين لهم سيل من الطلبات للذهاب إلى بلد لم يسمع بها من قبل، وشكلت لجان تحقيق أوصت بزج «غريغور» في السجن، غير أنه لم يمكث طويلا وهرب إلى «كاركاس» وتوفي هناك في عام 1845، كأجرأ نصاب في التاريخ، ولتصبح «بويايز»، رمزا للاحتيال والنصب، ويدور الزمان دورته، وبعد رحله طويله تجاوزت الـ35 عاما في ممارسة مهنتي التي تخصصت فيها، انتهى بي المقام في صومعتي في «كنساس سيتي»، أنام حتى الضحى، ولي خدم يسهرون على راحتي، ليجرجرني أحد الغوغائيين ممن وثقت بهم من أكمامي، نحو مثواي ما قبل الأخير ولا أكون شاهداً على أجرأ عملية نصب في القرن الحادي والعشرين، عملية نصب تتجاوز الأفلام الهندية والمكسيكية، وليلة القبض على فاطمة، قصة كل من سمع بها وعرفها قهقه قهقهة كقهقهة «كلارك قيبل» في فيلم ذهب مع الريح، ولأن كل شيء ذهب مع الريح، وطارت الطيور بغير أرزاقها، لا أعلم ما الذي دعاني اليوم لكي أنفض الغبار للحديث عن هذه القضية وأجددها، كشفرات الحلاقة أو جمر الموقد، فالحكاية تحتاج إلى خبير مائي للخوض فيها ومعرفه أغوارها، يبدو أن أحدهم استفزني البارحة عندما سألني... على ماذا انتهت حقوقك وحقوق الآخرين في قضية «بويايز»...؟

* كاتب سعودي


fouad5azab@gmail.com