عندما هممت باستدعاء ذاكرة المكان الذي شهد ولادة وانبثاق الدعوة الاصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب والذي يشمل في تضاعيفه الدرعية والعيينة والجبيلة وحريملاء، جرت الأحداث أمامي كشريط سينمائي قبل ان تتجسد على ارض الواقع: فهذه المنطقة الممتدة من الرياض جنوباً وحتى ما وراء العيينة شمالاً كانت المسرح الذي شهد الفصول الاولى لدعوة الاصلاح الديني الذي غير وجه الحياة في الجزيرة العربية وامتدت آثارها حتى اليوم..
يصور المؤرخ ابن غنام الحالة الاجتماعية والدينية في نجد قبل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب الاصلاحية بأن الناس كانوا يقصدون قبر زيد بن الخطاب في «الجبيلة» ويدعونه لتفريج الكرب وقضاء الحاجات، ويزعمون ان في قرية الدرعية قبورا لبعض الصحابة فعكفوا على عبادتها «والعياذ بالله» وصار أهلها أعظم في صدورهم وأكثر رهبة فتقربوا اليهم وهم يعتقدون بأنهم اسرع الى تلبية حوائجهم.. كانوا يأتون الى «شعيب غبيرا» من المنكر مالا يُعهد مثله يزعمون ان فيه قبر «ضرار بن الازور»..
«الفحَّال» فحل الفحول
وفي بلدة «العفرا» -يضيف ابن غنام- ذكر النخيل المعروف بـ«الفحال» يذهب اليه الرجال والنساء ويفعلون عنده من المنكرات ما ينكره الدين: فالرجل الفقير يذهب الى «الفحال» ليوسع له رزقه (والارزاق بيد الله) والمريض يذهب اليه ليشفيه (والشفاء من عند الله) والمرأة التي لم يتقدم اليها خاطب تتوسل اليه في خضوع وتقول له: «يا فحل الفحول ارزقني (والعياذ بالله) زوجاً قبل الحول»!!
شجرة الذئب
ويمضي ابن غنام في وصف هذه الشركيات التي كانت سائدة في نجد في ذلك الزمان مشيراً الى شجرة تدعى «شجرة الذئب» تؤمها النساء اللواتي يرزقن بالذكور ويعلقن عليها الخرق البالية لعل اولادهن يسلمون من الموت والحسد!!
«تاج».. رجل الخرج
كما كان في الخرج رجل يدعى «تاج» نهج الناس فيه سبيل الطواغيت فانهالت عليه النذر واعتقدوا فيه -والعياذ بالله- النفع والضرر.. كانوا يحجون اليه افواجاً وينسجون حوله الكثير من الاساطير والخرافات!!
الطواغيت .. الشياطين والاصنام
ويصف المؤرخ الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بيئة الجزيرة العربية التي ظهرت فيها دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب قائلاً: «كان أهل عصيرة قد اشتدت غربة الاسلام بينهم وعفت آثار الدين لديهم وانهدمت قواعد الملّة الحنيفية وغلب على الاكثرين ما كان عليه أهل تلك البلدان: فأعلام الشريعة مطموسة ونصوص التنزيل وأصول السنة فيما بينهم مدروسة، بينما احاديث الكهان والطواغيت مقبولة قد خلّوا ربقة التوحيد والدين واجتهدوا في الاستغاثة والتعلق بغير الله من الاولياء والصالحين والاوثان والاصنام والشياطين وقد أغشتهم الشهوات عن الارتفاع الى قلب الهدى من النصوص المحكمات والآيات البينات».
في حفرة التاريخ
استدعيت كل هذه الصور البدعية والشركية وقرأت مئات الصفحات عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب وعن دعوته الاصلاحية والظروف الاجتماعية والدينية والسياسية التي كانت تعيشها نجد والاوضاع المضطربة في شبه الجزيرة العربية قبل ان ابدأ جولتي في الدرعية التي وصلتها ليلاً وسط طقس شديد البرودة أبقى الناس في منازلهم فبت ليلتي الأولى في حفرة التاريخ في فندق متواضع.
وفي الصباح استيقظت باكراً للتجول في البلدة التي اصبحت محافظة يتداخل فيها الماضي مع الحاضر فبيوت الطين القديمة ظلت على حالها صامدة منذ أكثر من قرنين من الزمان وهي تقف شامخة الى جوار العشرات من المباني الحديثة والمقارنة بينهما هنا اشبه بالمقارنة بين وردتين: الأولى طبيعية تضج بالحياة والاخرى بلاستيكية جميلة لكنها جامدة لا تترك في النفس أي أثر يذكر.
الشيخ مر من هنا
وانا أتجول في أزقة الدرعية القديمة وبين مبانيها العتيقة التي تهدّم بعضها، لطالما تساءلت بيني وبين نفسي عما اذا كان الشيخ محمد بن عبدالوهاب -يرحمه الله- قد مرّ من هنا وبين هذه الطرقات بعد ان انتقل الى هذه البلدة وتحالف مع اميرها -آنذاك- محمد بن سعود لتصبح عاصمة للدعوة النقية من رواسب الشرك.. ولابد أنه أدى فروض الصلاة في مساجدها الطينية الصغيرة المنتشرة هنا وهناك..
جامع الامام
كانت مخيلتي تتقاطع مع الواقع لتشكل صورة متكاملة لحقبة مهمة من تاريخ بلادنا وأمتنا الاسلامية حينما زرت جامع الشيخ محمد بن عبدالوهاب الذي شُيد على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز «رحمه الله» وصُمم بنمط يحاكى هوية البناء في الدرعية وتقلد الوانه ومواده أدق تفاصيل تلك الهوية.. ولولا حداثة بناء ذلك الجامع التي لا تخطئها العين لظننت من الوهلة الاولى أنه قطعة من الدرعية القديمة.
سألت الحارس الذي رافقني في الجولة على أرجاء الجامع عن اعداد المصلين فيه فاشتكى من قلتهم معللاً ذلك بأن المنطقة المحيطة هجرها سكانها للسكن في الأحياء الجديدة التي تبعد قليلاً عن البلدة القديمة.. بيد أنه استدرك مضيفاً أن الجامع يكتظ بالمصلين في صلاة الجمعة خاصة بعد ان بدأ ترميم جامع قريب له.
الدولة المظلة
بقدر ما عُرفت الدرعية بأنها عاصمة الدولة السعودية الأولى.. اشتهرت باعتبارها منطلق دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب.. فهي وفرت له الملاذ الآمن بعد أن تخلى عنه أمير بلدة العيينة طالباً منه مغادرة البلدة بضغط من حاكم الاحساء في ذلك الحين سليمان بن عريعر الخالدي.
وفي الواقع وفرت الدرعية للشيخ محمد بن عبدالوهاب المظلة التي انطلقت الدعوة تحت رعايتها وحمايتها كما وفرت له الدعم السياسي الذي كان في أمس الحاجة له لإكساب دعوته عمقاً يجنبها مفاجآت الوضع المضطرب في نجد.. ولذلك يرى المؤرخون أن الفضل في نجاح الدعوة الاصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب يعود بعد الله سبحانه وتعالى الى التحالف التاريخي بينه وبين الأمير محمد بن سعود
الدرعية القديمة
تضم بلدة الدرعية القديمة الواقعة على ضفاف وادي حنيفة على بعد حوالى «20» كم من الرياض عدة مناطق أبرزها منطقة طريف التي كانت محاطة بسور كبير لحماية قصر سلوى وقصور آل سعود الأخرى وبها حصن دريشا الذي يُعد أكبر حصن في البلدة.
ويوجد مسجد ومدرسة وبيت الشيخ محمد بن عبدالوهاب في منطقة بجيرى.
أما منطقة السارية فتوجد بها البيوت القديمة للأعيان فيما كانت منطقة غصيبة تشكل المركز التجاري الأول للدرعية التي تشمل مناطقها كذلك ثهارة وعود بليد.
تدمير الدرعية
وفي عام 1233هـ دُمرت الدرعية وقُضي على الدولة السعودية الاولى على يد ابراهيم باشا والي مصر من قبل الدولة العثمانية التي كانت تتخوف من الدعوة الاصلاحية التي انطلقت من الدرعية لمختلف أجزاء الجزيرة العربية وما جاورها من اقاليم.
أرض الدعوة الاصلاحية (الحلقة الاولى)
«نجد» ما قبل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب
18 مارس 2006 - 19:57
|
آخر تحديث 18 مارس 2006 - 19:57
تابع قناة عكاظ على الواتساب
رصد صالح الفهيد