يقول ديكارت إن من نعم الله على بلدٍ أن يمنحه فلاسفة (ومفكرين) حقيقيين. وما بين القوسين هو إضافة شارحة من عندي، فالمقصود بالفيلسوف لدى ديكارت هو المفكر الذي يبحث عن الحقيقة انطلاقاً من الكوجيتو، أي انطلاقاً من منهج الشكّ الذي يعود إلى الذات العارفة ويتحقق من قدرتها على المعرفة بعد أن يثبت وجوداً راسخاً لها لا يعتريه شك. فالشيء إذا كان وجوده مشكوكاً فإنه لا يكون مصدراً وثيقاً للمعرفة، فكما أن علماء الحيوان المتخصصين لا يحفلون بالحيوانات الخرافية والأسطورية كطائر العنقاء والتنين والسعلاة لأنها غير موجودة فكذلك لا يمكن إقامة معرفة على ما ليس له وجود حقيقي. وعلى كل حال فإن موضوع المقال اليوم مرتبط بموضوع المقال السابق الذي تحدثت فيه عن معرض الكتاب وعن إقبال القارئ السعودي على الكتب الفكرية والفلسفية والعلمية التي طال عنا غيابها. وكما نعرف فإن الحداثة في السعودية قد بدأت بالأدب شعرا وقصة ورواية، وظلت بعيدة عن الحداثة بمعناها الفكري والفلسفي إلا إذا استثنينا الفلاسفة الرواد الكبار محمد حسن عواد وعبدالله القصيمي وحمزة شحاتة، والذين لم تؤتِ كتاباتهم الفلسفية ثمارها طوال عقود من الزمان إلى أن أعيد إحياؤها في الوقت الراهن وخصوصاً كتابات القصيمي التي تميزت عن الآخرينِ بالنقد الجذري والصارم والجريء إلى درجة فائقة ! وأتمنى أن تعاد طباعة كتب هؤلاء الرواد الفكرية من جديد، وقد قامت بعض دور النشر العربية بإعادة طباعة كتب القصيمي وقام نادي جدة بإعادة طباعة كتاب شحاتة (الرجولة عماد الخلق الفاضل) ولا أدري إذا أعادوا طباعة كتابه المهم (رفات عقل) أم لا، وكذلك فإننا نحتاج إلى أن نعرّف القارئ اليوم على كتاب المفكر التنويري محمد حسن عواد (خواطر مصرحة) لقيمته التاريخية والتأسيسية. في معرض الكتاب كانت الإصدارات السعودية تحظى بإقبال رائع جداً وقد اكتظت رفوف المعرض بالروايات والأشعار ولكن الجديد هذه المرة هو حضور الكتاب الفكري السعودي. لقد اتجه المثقف السعودي إلى كتابة الرواية في السنوات الأخيرة وأنتج في عام واحد (العام الماضي) ما لا يقل عن ستين رواية وقصة. أما في هذا العام فقد صدرت مجموعة لا بأس بها من الكتابات الفكرية غير الأدبية أو التي تأخذ من الأدب مادة لها للقيام بدراسة غير أدبية ؛ كالمفكر الكبير عبد الله الغذامي الذي جعل من الأشعار والمرويات والآداب الشعبية طريقاً له لكي يدرس العقلية الاجتماعية والنسق الثقافي الذي يتحكم في صياغة تصورات ورؤى الأفراد، والغذامي كما هو معروف من رواد البنيوية في الفكر السعودي والعربي. والفلسفة البنيوية لا تحفل بالأفراد (العناصر) بقدر ما تحفل بالعلاقات والقوانين التي تنتظمهم وتتحكم فيهم وتوجههم، وهي فلسفة ذات منزع جبري لا مكان فيها للإرادة الحرة ولا للفعل الفردي، وآخر كتاب له هو (القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة) ويرى فيه أن التعصب القبلي هو مظهر من مظاهر ما بعد الحداثة. ومن الإصدارات الفكرية السعودية الحديثة كتاب الدكتور سعد البازعي (الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف) وهو يدرس ظاهرة سوسيولوجية وهي المثاقفة، وهي تختلف عما يسمى في الخطاب الإنثروبولوجي بظاهرة «الانتشار الثقافي» حيث تحدث هذه الأخيرة بعيداً عن وعي الناس وعن إرادتهم، وإنما تجري تبعاً لقوانين كونية مرتبطة بعوامل بيئية وجغرافية متنوعة. وأما الأديب علي الشدوي فقد اتجه في كتابه الأخير (الحداثة والمجتمع السعودي) إلى تقديم دراسة سوسيولوجية ثقافية حول المجتمع السعودي في فترة تاريخية محددة (1924-1953) تتقدمها مقالة عن العقل غير الحداثي وهي مقالة مهمة جداً وفيها أقام حواراً مفتوحاً مع آراء الغذامي بشأن الحداثة. كما صدر كتاب لأستاذ اللسانيات والمفكر السعودي فالح العجمي بعنوان (الإنسان المسلم: وضعه القانوني والتاريخي وحقوقه وواجباته) ولهذا الكاتب كتاب مهم جداً بعنوان (تحت القشرة) وله (اللغة والسحر) وهو بحث سيميولوجي يدرس العلامات والرموز اللغوية التي لا تعمل إلا في الأطر الاجتماعية، وأما الدكتور حمزة المزيني المعروف بكتاباته السجالية مع الفكر التقليدي فقد صدر له كتاب (ثقافة التطرف: التصدي لها والبديل عنها)، وفي فلسفة القيم كتب عبد الله الفيفي (نقد القيم) والذي يحيلنا عنوانه المميز إلى ثلاثية إيمانويل كانط النقدية (نقد العقل المحض، نقد العقل العملي، نقد ملكة الحكم). وكما يلاحظ فهذه الكتب الفكرية صدرت في العامين أو الثلاثة أعوام الأخيرة. وأما الكتّاب الشباب فإن من أبرز الكتب التي صدرت كتاب (ضد الحرية) للكاتب في جريدة الوطن سعود البلوي وسوف نتحدث عن هذا الكتاب في مقال لاحق، وقد تحدثنا عن كتاب عبدالله المطيري (البليهي في حوارات الفكر والثقافة) في مقال سابق. وأما الكاتب عبد الله حميد الدين فقد ألف كتابا بعنوان (الكينونة المتناغمة) في الفكر الإلهي وقدم فيه تصوراً رائعاً عن الله تعالى. وعن دار الانتشار صدر كتاب لمجموعة من المؤلفين السعوديين بعنوان (المواطنة والوحدة الوطنية في المملكة العربية السعودية) واشترك في تأليفه كل من جعفر الشايب وسعود البلوي ومحمد المحمود وحسن حمادة وشتيوي الغيثي ويوسف أبا الخيل، وقدم له محمد محفوظ.
ومن المفكرين السعوديين الإسلاميين نذكر المفكر المعروف حسن الصفار الذي أصدر مؤخراً كتابا بعنوان (شخصية المرأة) وزكي الميلاد الذي ألف مجموعة كبيرة من الكتب الفكرية وآخرها (محمد إقبال والتجديد الديني والفلسفي).
والمؤلفات كثيرة ولكنني تخيرت منها ما قرأته أو قرأت عنه، وهذه الإطلالة السريعة لن تغني القارئ عن الرجوع لقراءة هذه الكتب والتفاعل معها ولتكوين مجتمع فكري علمي يربط بين المثقفين ويثري من أفكارهم، ولن يفسد الواقع الفكري في أية ثقافة إلا التجاهل والقطيعة التي نراها بين المثقفين حيث يغرد كل واحد في سربٍ من صنع خياله ولا يتواصل مع غيره من الكتّاب، وهذه آفة الفكر.
للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة
كتابات سعودية فكرية
14 مارس 2009 - 20:51
|
آخر تحديث 14 مارس 2009 - 20:51
تابع قناة عكاظ على الواتساب