هل كان أفلاطون عدوا للشعر؟ ولماذا وقف هذا الموقف الحذر من الشعر؟
لقد أجمع المؤرخون والأدباء على أن أفلاطون كان عدوا لدودا للشعر، وقد اعترف هو ذاته في الجمهورية –الكتاب العاشر- أن بين الفلسفة والشعر خصاما قديما. ويكفي أن نقرأ بعضا من النصوص الشهيرة في محاوراته، وتحديدا الجمهورية وإيون، لندرك مدى هذه العلاقة المضطربة بين أفلاطون والشعراء. يقول في الجمهورية (عندما يفد إلى مدينتنا واحد من أولئك الشعراء، الذين يستطيعون محاكاة أي شيء سوف نخر له ونقدسه، لكن ينبغي أن نخبره بأنه ليس من المسموح لأمثاله بالوجود في دولتنا، فالقانون لا يسمح بذلك، ولهذا فعندما نمسحه بزيت المر ونضع على رأسه إكليلا من الصوف سوف نرسله بعيدا إلى مدينة أخرى). وفي نص آخر (على الشعراء أن يعبروا في أعمالهم عن الخير، وإذا فعلوا أي شيء آخر فسنطردهم من دولتنا، أو سنوسع عليهم الرقابة...؛ مخافة أن يفسدوا ذوق مواطنينا).
ولكن من هو الشاعر الذي يريد طرده؟ وما هو الشعر الذي يفسد ذوق وعقول الناس؟ هل هو الشعر بعامة أو كما يقول سقراط (الشعر بالذات) ؟! أم أنه نوع معين من الشعر؟
حينما نستمر في قراءة المحاورات التي تتناول الشعر والشعراء، فإنها تصادفنا نصوص وشواهد تدل على حب أفلاطون وتعاطفه من الشعر، خصوصا أنه يكتب بلغة شعرية راقية، بل هو كما قال كاسيرر أعظم الشعراء في تاريخ الفلسفة. يقول أفلاطون عن الشاعر (إنه شيء لطيف ومجنح وملهم) ويتحدث بتقدير كبير عن هوميروس الذي يرى أفلاطون أنه أعظم الشعراء وأفضلهم. ولا يخفي انجذابه للشعر، يقول في محاورة الجمهورية مخاطبا كلوكون (إننا مدركون لسحر الشاعر، ولكن ليس لنا الحق أن نغدر بالحقيقة على ذلك الحساب، أجرؤ على القول يا كلوكون بأنك مسحور به مثلي، خاصة عند ظهوره في عمل هوميروس).
في هذا المقطع الأخير، يمكننا أن نكتشف السر. إن الشاعر كما يفهمه أفلاطون بعيد عن الحقيقة، بل إنه بعيد عنها مرتين، فإذا كانت الحقيقة عند أفلاطون موجودة في عالم الأفكار أو المثل، وإذا كان الشاعر يكتفي بمحاكاة الأشياء المادية التي هي محاكاة لعالم المثل، فإن الشاعر يبتعد مرتين عن نور الحقيقة.
إن مفهوم الحقيقة عند أفلاطون والذي يتجسد في المثال الأعلى وهو مثال الخير، لا يمكن إدراكه بالحس أو بالإلهام، وإنما بالعقل (الديالكتيك)، فإذا كان منهج الشاعر في القول هو الإلهام (حيث لا يغني الشاعر بفن «أو صنعة» وإنما بقوة قدسية) (وما دام المرء لا يمكن له أن ينظم الشعر، إلا بعد أن يتخلى عن عقله) – كما جاء في محاورة إيون؛ فإنه لن يصل إلى الحقيقة، وإنما إلى الأوهام والخرافات. وهذه الخرافات التي يدعي الشاعر أنها ليست من عنده، تجعل الشخص غير قادر على تخطئته والتحذير منه. إن الإلهام شبيه بالجنون عند أفلاطون (كما يقول فيرنون هول) وهذا يكفي لإدانة الشعراء.
من هنا نفهم أن رفض أفلاطون للشعر كان مقتصرا على نوع واحد، هو الذي يسرد القصص والأساطير المخالفة للعقل ولمثال الخير الذي هو منبع الحقيقة. وإلا فإنه يذكر كثيرا أنه يرحب بالشاعر الذي ينسجم مع مبدأ الحقيقة، يقول (الشعر الذي سيبرهن على حقه في الوجود في دولة حسنة التنظيم، سنكون مسرورين بإدخاله إلى دولتنا) – الجمهورية، ويقول (إنني على استعداد، لأن أعترف أن هوميروس أعظم الشعراء، ولكن علينا أن نبقى ثابتين في حكمنا أن الترانيم والثناءات على الأبطال والفاضلين، هي الشعر الوحيد الذي يجب أن نقبله في دولتنا) – الجمهورية.
الحقيقة تتجسد في مثال المثل، وهو الخير، وعلينا أن لا نفهم الخير بالمعنى الأخلاقي المألوف، بل بالمعنى الميتافيزيقي، الذي يجعل منه الغاية التي ليس وراءها غاية. إن مثال الخير يمتاز بالاعتدال والتناسب والوحدة والنظام... واتجاه أفلاطون إلى القول بالوحدة والنظام والترتيب، يمكن فهمه في ضوء الفوضى السياسية والفكرية التي عانت منها أثينا في عهده والتي أدت –وتحديدا مع الفكر السفسطائي– إلى ضياع النظام، ومن ثم ضياع الحقيقة. إن كل ما هو متناسب ومنظم هو –في رأي أفلاطون– أقرب إلى مثال الخير (الحقيقية) من الأقل ترتيبا وتنظيما. لقد أدى حب أفلاطون للنظام إلى الاتجاه نحو الفنون والمعارف التي تتسم بهذه السمة كالهندسة والموسيقى والفلك، فالهندسة برأيه (هي معرفة الثابت الدائم، إنها ترتفع بالنفس نحو الحق) – الجمهورية. ومن المعروف أن النظام هو الضد لفكرة الصيرورة والتغير لما تؤدي إليه من فوضى واضطراب؛ ولهذا فقد احتفى أفلاطون كثيرا ببارمنيدس الذي رفض الصيرورة وقال بالثبات والنظام (تاكسيس) وكان يسميه الأب بارمنيدس. وأما الموسيقى فقد قال عنها (إننا نستطيع الحصول على عادة النظام الصحيح من خلالها؛ أي الموسيقى. وسترافق الناس هذه العادة في كل أعمالهم وستكون قاعدة رئيسية لنموهم، وإنها لقادرة على أن تصحح أي شيء في الدولة قد ينحرف) – الجمهورية.
إن الموسيقى والهندسة، وكل الأفكار والأعمال المنظمة والمنسقة والمعتدلة، سوف تحمي المرء وتحمي الدولة من الفوضى والانحراف، ولهذا سوف نفهم لماذا رفض أفلاطون الأسطورة، ولماذا رفض الشعر الذي هو صانع الأسطورة، ولماذا رفض القوة العمياء التي لا يمكن إقامة الحكم العادل اعتمادا عليها. إن مفهوم العدالة، كما استنتج كاسيرر - هو مبدأ يضم معاني الترتيب والانتظام والوحدة والاستقامة.
وإجمالا لما سبق أقول: إن الفوضى التي عاناها المجتمع اليوناني، فرضت على أفلاطون أن يفكر في حلول سياسية واجتماعية ينتهي من خلالها إلى إحلال النظام والاعتدال (أو العدالة)، كما وفرضت عليه أن يحذر من أي فكر لا يقول الحق وأي شعر لا يتغني بالخير (الذي أسلفنا أن معناه هو النظام)، فالشعر الذي يرى (أن «الخير» سبب في «الشر» هو ما ينبغي إنكاره بجسارة، كما لا يمكن أن تقال أو تنشد مثل هذه الأشعار في أية جمهورية حسنة التنظيم) –الجمهورية. إن الشعر الذي حاربه أفلاطون لم يكن كما نفهمه نحن فن بشري ذو طابع فردي. وكان أفلاطون على وعي بقصور إفهام الناس عن معرفة حقيقية الشعر، فهو يرى أن هذا الشعر الذي (يتحدث عن الحروب الدائرة في السماء ومعارك المردة وكل المشاحنات.. لن يهدينا أبدا إلى أي نظام أو توافق أو وحدة في العالم الإنساني)– الجمهورية. ولن يسلم من هذه الأشعار، إلا أولئك الذين (يمتلكون ترياقا يقيهم منه، وهذا الترياق هو الفهم الحقيقي لطبيعة الشعر).
المراجع:
1- محاورات أفلاطون الكاملة – ترجمة شوقي داود تمراز.
2- الدولة والأسطورة – آرنست كاسيرر، ترجمة أحمد حمدي محمود.
3- أفلاطون – أحمد فؤاد الأهواني.
4- تاريخ النقد الأدبي – فيرنون هول، ترجمة محمود مصطفى وعبد الرحيم جبر.
أفـــلاطــــون والشـــــعراء
عفـــوا أيــهـــا الشـــاعــــر..القانـون لا يسمـح بوجـودك!
12 فبراير 2009 - 21:37
|
آخر تحديث 12 فبراير 2009 - 21:37
تابع قناة عكاظ على الواتساب
شايع بن هذال الوقيان