عندما عبرنا نهر (غبي) ودخلنا في حدود منطقة (جما) بدأت الطريق تتلوى كأفعى منفلتة عبر أجمات خضراء وغابات لا تملك سوى أن تسبح الله تعالى على هذا البهاء الممتد أمامك والذي يأخذ بالنفس ويحلق بها في عوالم ملكوت الله، وبدأنا نرتقي جبالا وتلالا والغيوم ترافقنا ومنظر السفح تحتنا في خضرة لا نهاية لها حتى تتعانق مع الأفق، تمنيت كثيرا أن أقف – وأخذتني الحمى السعودية- أن أفرش سجادة وأخرج دلة القهوة والتمرة وأن استمتع بهذا المناخ الساحر والمشهد الذي لا نراه إلا في الصور والأفلام فقط. مررنا بقرى كثيرة ونحن نقصد مدينة (جما) ورأيت المساجد الصغيرة على امتداد ذلك الخط، فيما كانت النسوة متحجبات في غالبهن، وأتذكر عند مرورنا بمدينة (سندابو) قال لنا مرافقنا الشيخ سلطان بأن نساء هذه المدينة جميلات جدا ويتمتعن بالحياء والحشمة، وينظفن أنفسهن كثيرا بما يفوق قريناتهن في باقي المدن. وفعلا بمجرد مطالعتك لسحن الوجوه هناك تتلمس هذا الأمر، وأضاف مرافقنا بأن ميزة أهل البلاد السماحة وإكرام الضيف والترحيب الحار به.
عندما سألت مرافقي عن سبب فشو المظاهر الإسلامية في هذه الولاية أجابني أن السلطان العظيم أبا جفارالذي كان يحكم منطقة (جما) في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، عندما دخل في معاهدة مع منليك الثاني تجنيبا لبلده من الدخول في الحرب وخرابها، اشترط عليه ألا تبنى أية كنيسة ولا يدخلها أي نصراني ليعيش فيها ولا يدفن بها، غير أن ذلك انتهى بوفاته.
قصر السلطان أبا جفار
أول ما وصلنا إلى مدينة (جما) بعد خمس ساعات لم نشعر بها في الطريق - الذي اعتبر ما رأيته شخصيا هناك بأنها من أجمل مناطق العالم التي زرتها كطبيعة بكر لم تخربها يد إنسان - هالنا سوء الطرقات في المدينة، وقصدت فورا قصر السلطان المسلم ابا جفار، وعبر طرقات عدة متعرجة، وصلنا للقصر الكبير الذي كان يسكنه هذا السلطان . وكانت المدينة تحتنا، وأولت القصر وزارة السياحة الإثيوبية اهتمامها، وتجولنا في داخلها، ورأينا مجلس وعظه ومصلاه. وكان يرحمه الله يفرد قسما خاصا للنساء في القصر للاستماع إلى الدروس العلمية.
يصف لنا الشيخ عبدالله أحد أئمة المساجد هناك الذي قام بسرد بعض تاريخ ذاك السلطان بأن الرجل جسيم طويل ذو هيبة، ومحب للعلماء والصالحين، ويروي الناس هناك أنه لا يقصده أي عالم شرعي إلا ويتحفه بجارية وبغلة يركبها، وتلك أعطية كريمة كبيرة في ذلك الزمن. وكان يجمع العلماء من كل البلاد، وهم من جهتهم يقصدونه لما يعرفون عن حبه للعلم والعلماء.
وفي أسفل القصر لمحت مسجدا كبيرا مميزا، ذا منارة سامقة، وسألت عنه فاخبروني أن اسمه مسجد الأربعين، نسبة إلى أربعين عالما كانوا يلقون دروسهم في ذلك المسجد في عهد أبا جفار، الذي كانت الحركة العلمية في عهده بأوجها يرحمه الله تعالى.
مصير آل جفار
عندما تولى ابن أبا جفار الأكبر أبا دولا العرش من بعده وكان عالما زاهدا تقيا وورعا، ولم يكن له بالحكم، أناب ابنه أبا جوير – حفيد أبا جفار - وكان شجاعا ذكيا والمعيا وشاعرا فصيحا، وللأسف بعد رحيل الايطاليين من الحبشة انقض عليه هيلاسلاسي وغصبه الحكم ولم يلتزم باتفاق منليك مع أبا جفار، ووقتما حصل انقلاب منغيستو هيلا مريام في عام 1974 م غادر هذا الحفيد مملكته، وحصل على اللجوء السياسي في المملكة وعاش في مكة المكرمة مع مجموعة من أتباعه وأفراد أسرته – أباريا - وأدركه كثيرون من مسلمي الحبشة إلى أن توفي بها، فيما عادت أسرته المملكة في عام 1411هـ إلى أوطانهم بعد سقوط النظام الشيوعي وقيام الحكومة الديمقراطية الحالية.
تواريخ أسرة أباجفار ومناقبهم كثيرة ومذكورة ومكتوبة بلغة أمهرية وأخرى أجنبية , فأباجفار هو ابن أباغمول ويعني – الفرس – ملك مملكة جما , إذ حكم مملكة جما , وكلما جلس على كرسي الحكم في الصباح كان شعاره " برئت عن كل دين غير دين الإسلام , وكل ملك يزول وملك الله لايزول " , بإشارة من وزيره ومساعده أبادكو أبابلو دخل اتفاقية عهد مع الامبراطور منيلك المتضمنة على عدم التحرش وإشعال الحرب بينهم , وعلى ألايدخل مملكته نصراني ولاتبنى كنيسة .
وبعد انتقال أباغمول إلى رحمة الله تعالى تولى ابنه أبا جفار مقاليد الحكم , وكان ذا هيبة شجاعا ومقداما ورعا يحب العلماء ويكرمهم ولايجلس في حكمه إلا وبجانبه عالم يستشيره , حريصا كل الحرص على الأمور الدينية مهتما ومنكبا على منافع ومصالح رعيته , وأبرز مزيته عن سائر مماليك الإسلامية السبعة سطرها التاريخ له إقامته وقف لحجاج إثيوبيا في مكة المكرمة ومازال الوقف شامخا في العتيبية بعد توسعة الحرم المكي في عمارة مكونة من خمسة طوابق يتم إدارتها من قبل لجنة من الإثيوبيين الأروميين برئاسة حفيده أبابيا أباجوير .
ثم انتقل الحكم إلى حفيده أبا جوير بدلا عن والده أبا دولا لما كان يتمتع به من الشجاعة والعلم والثقافة , حيث كان بارعا في الرأي ملما للغات عديدة من أبرزها العربية فصيحا طليقا بل حتى لديه مؤلفات بها, وقيل أنه تزوج من امرأة سورية رزق منها ابنه أبابيا , يقيم حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية وكثيرا مايتردد إلى المملكة.