-A +A
فؤاد مصطفى عزب
لا أعلم من أين أبدأ اليوم، فما أكتبه اليوم يحتاج إلى مجلدات ومداد من القلب، حبل ممتد لا ينقطع أبداً، مرحلة حاضرة بقوة وعمق في حياتي، وفي حكاياتي وذكرياتي، ومهما طال العمر بالإنسان، وتبدلت أحواله، بين السعادة والحزن، والفقر والغنى، يظل الحديث عن مرحلة ما، حديثاً من القلب إلى القلب، يكفي استرجاع لحظة واحدة، بعدها تبدأ الأفكار في التسلل بخفة، ثم تنهمر من الذاكرة بسلاسة، ويخرج من العيون ما يفيض منها حبات دموع، في زمن مضى، حيث البدايات، عاقبتني الحياة بتحقيق أمنية الحصول على قبول من جامعة مرموقة يتجاوز عمرها المائة عام، في وسط الغرب الأمريكي، تتناسب ومتطلبات كلية الطب، الجهة التي قامت بابتعاثي، ولأتبين لاحقاً أنني العربي الوحيد في تلك الجامعة، أتعلم ما معنى أن تكون العربي الوحيد في جامعة ولا أحد يتحدث لغتك؟ يعني أن الغربان تطير فوق سمائك كل يوم، تنهش جراحك كمائدة، وتزيد من وحدتك، والصبح لا يشرق والليل لا يغيب، وحتى إن صرخت، صوتك لا يعلو أي صوت، ولا تسمع سوى صدى صوتك، ولأن الأشياء تأتي دون موعد، فعندما طلبت من الحياة نجمة من السماء، عادت لي بالسماء، بعد ثلاثة أعوام على مكوثي بالجامعة، أنصفتني الحياة، واستجاب الله لدعاء أمي، والتي كانت تدعو لي بحسن الرفقة والتي تصد عني أذى الاغتراب، التحق بالجامعة مجموعة من السعوديين، ملأوا ساحة القلب ضجيجاً، وعشقتهم لحد الثمالة، عبدالرحمن الدخيل، عبدالعزيز المزروع، عبدالله العراك، عبدالرحمن العييد، محمد المقرن، وحمد الحسن رحمة الله عليه، وتعلمنا أشياء كثيرة من بعضنا، لأننا أحببنا بعضنا بعضاً، وكنا صادقين في محبتنا تلك، كصلاة الخائفين، تعلمت منهم أن السعادة، تتحقق بصورة أجمل حين تشمل الآخرين، وأن لقمة القناعة تكفي لألف كنا أنشودة في محبة الحياة، وظلت تلك الأسماء معلقة في ذاكرتي كالنجوم رغم تباعد الأمكنة، منقوشين في ثنايا الفؤاد، استمر عبدالله العراك بائع العطر الذي اختصر ألف وردة في زجاجة، غابة من الأصدقاء في رجل، في ظله تفقد ظلك، كان أكثرنا طولاً، قامته تلامس النخيل شهم ووديع كظلال الملائكة، وعبدالرحمن الدخيل، المثقف العفيف، من قلبه وردة ظل ومعطفه شجرة تنمو في نسيجها اللوز، شجرة تدرك العمق الحقيقي لجروح الآخرين، وغابة العصافير الممتدة من سور السرو إلى أقصى السماء، وعبدالرحمن العييد، الطفل الكبير الذي لم تجر في عروقه قط سوائل غير المسك والعنبر، منبع الكرم والوفاء والإخلاص، فارس الخيول، طريد الأحلام، لم يتوقف عن الركض لحظة باتجاه نهر الأمل وتحقيق المستحيل، ومحمد المقرن، شتلة الحب على أروقة الطريق، صاحب القلب الكبير الذي نسج من حرير وماس، وعبدالعزيز المزروع، الخليل الجميل الحكيم، من يعرفه يتعلم كيف يتسلق عنق الوردة، علاقته مع البشر خضراء كعلاقة الأوراق مع الشجر، أستحضر كل أولئك الأحبة اليوم، وأنا أستدعي الحنين لتلك الأيام، أيام كُلما تذكرتها اشتد المطر، ليس هنالك شيء يستطيع أن يوقد الذكريات أكثر من الحنين، وليس هناك شيء يخمد الحنين، غير العزف على نياط القلب، في أمسيات حين ينهمر المطر لشم رائحة الأرض، وهكذا هي القلوب، حين تمتلئ بالحنين.. تفضحنا!!