ربما كان هذا الوصف هو انسب وصف لحالة بعض مثقفينا الذين فقدوا عناصر التماسك في طرحهم الفكري، ولم يصلوا بعد إلى مرحلة السيلان التام، فليس لديهم حالة ثبات أمام المتغيرات الكثيرة، فبقليل من الحرارة واضطراب الأجواء تتغير طعومهم وروائحهم وألوانهم وحالتهم العامة، وتبدأ في أخذ صورة جديدة ليس لها إلا بقايا من الصورة الأولى .
واهم ملامح هذه الميوعة : أولا : التهلل والاستبشار لكل ماهو غربي من الطروحات الفكرية إلى المواقف السياسية إلى السمات الأخلاقية، فهم مع ذلك كله في قبول واقبال، بل وربما تبرير وتسويغ، أو في أقل الأحوال عدم ممانعة، فهم بكل أسف يتجاوزون معها مفردات الرفض الموقفي والمبدئي أو حتى المصلحي .
ثانيا : الأنفة من كل ماهو تراثي أو أصيل، والضيق بكل حديث عن المرجعية أو الهوية الثقافية، خصوصا حين يكون الإسلام هو شعار ذلك الحديث أو عنوانه، وتبرير ذلك وتغليفه بالضجر من الانغلاق، وبالتبرم من الماضوية و الماضويين الذين يجترون الماضي ليعيشوا بداخله .
ثالثا: الفرار من المجادلة بالحسنى، او مناظرة الطرف الاخر ومحاورته، والاقتصار على إلقاء وجهات نظرهم وافكارهم هم فقط، دون التفات الى أي نقد لها ، فكثيرا ماكانت طروحات هؤلاء القوم محل نقد ليس من الطرف المخالف لهم بالضرورة بل من الطيف الثقافي الذي يحتكم إلى المنطق المقبول، ولكنهم في العادة يتجنبون مثل هذه المواجهات المكشوفة ويلوون أعناقهم في الاتجاه الآخر مع ضجيجهم الذي لاينقطع عن مفردة الحوار وتشنيعهم على الآخرين بشأنه .
رابعا : أنهم منكفئون على أنفسهم فهم أقل الناس تحقيقا لمبدأ الحريات وإتاحة الفرص الحقيقية لغيرهم، ويظهر ذلك بوضوح حين يتمكنون من أي موقع أو وسيلة، بل لديهم من المصادرة لغيرهم ما لا يقف عند مسلك بغض النظر عن أخلاقيته، وذلك في قائمة تطول من التكلف والتزييف والتهويل لتنتهي بالكذب الصراح .
خامسا : بناء الأفكار والطروحات والمواقف على أسس غير علمية بحال، بل ربما انطلقت مع كل عنفها وحديتها من مجرد رؤى وانطباعات شخصية، لاعلاقة لها بالحقيقة والبرهان، وغالبا ما كانت انعكاسا لحالتين نفسيتين متقابلتين، حالة ذهول واستغراق في الآخر المقابل وهو الغربي غالبا، وحالة نفور بالتبع من كل جاذب مقابل لجهة الهوية والأصل، مع استحكام الضجر من كل رؤية تعتمد على المرجعية التراثية الصحيحة، ويلتحق بهذا المسلك أيضا انتقائية جائرة في قراءة التراث إن وجدت، بل وفي قراءة الواقع أحيانا ليتم حرف ذلك كله لمصلحة الرؤية والموقف المسبق .
سادسا : عدم التراجع عند ظهور الحق وانكشاف وجه الخلل والخطل، بل والفرار حينها إلى مواقف هلامية تقلل من شأن القضية، وتسخر من تضخيم الأمور، وتبحث عن جزئيات هامشية لتتحدث عنها تشتيتا للتركيز الذي سيفضح موضع الخلل .
سابعا : الاغترار والتعالي في لغة الخطاب بما يشعر القارئ أن هذا الكاتب أو المؤلف قد أمسك دون سواه بالحقيقة من أطرافها، وأنه لا أحد غيره قد اكتشف هذه الزاوية ولا أبدع هذا الرأي، في زهو لفظي غامض محتمل لأوجه من المحامل، مكسو بالتكلف والتصنع، وتتخلله المصطلحات الجديدة، واسماء بعض القوم، مما يملأ نفس المتأمل بأنها طريقة من يفتقر في داخله الى الحجة والقدرة العلمية ليستجديها بهذه الأساليب الجوفاء، وليتوهم حدوثها من خلال دهشة القارئ البسيط عند قراءته للنص .
ثامنا : القيام بدور إعادة الإنتاج والصياغة الشكلية ليس إلا لكثير مما كتبه الخصوم الصرحاء قديما وحديثا ،وفي مقدمتهم المستشرقون المغرضون، والتهويل به من جديد، اتكاء على ندرة من يقف على طروحات أولئك أو يقرأ جديدها، وفي الساحة المحلية كثير من ذلك، حين كان ذلك أول الأمر يكتسي باللون الأحمر في هواه ومضمونه ثم لما دارت الدائرة سار القوم وراء الغالب كعادة من لامذهب ولاهوية له.
* أكاديمي ، بجامعة الطائف
gameel999@hotmail.com
مظاهر «الميوعة» الفكرية
30 يناير 2008 - 20:53
|
آخر تحديث 30 يناير 2008 - 20:53
تابع قناة عكاظ على الواتساب
د. جميل اللويحق*