الجحود والحب «2»
23 أغسطس 2007 - 19:24
|
آخر تحديث 23 أغسطس 2007 - 19:24
تابع قناة عكاظ على الواتساب
د. ميسرة طاهر
إن للحب نوعين حبا حقيقيا وحبا نرجسيا، حب يعتمد على العطاء دون شروط وحب مشروط،حب يريد سعادة من يحب دون انتظار رد من المحبوب، وحب يعتمد على كشوف الحسابات يقدمها المحب لمحبوبه إذا رأى أو شم رائحة الجحود منه، حب يستمر ولا يهتم كثيرا برد من يحب، وحب يتوقف بمجرد أن يجحد المحبوب فضل المعطي. حب يستمر لأنه أصيل يحرص على استقلالية المحبوب عنه، وحب يتوقف بمجرد توقف الفائدة من المحبوب، حب حقيقي يتمنى المعطي أن يسعد من يحب حتى لو كان بعيداً عنه، وحب نرجسي يدوم طالما المحبوب مملوك له وتحت سلطانه. ودعونا نقرأ معاً هذا الحديث متأملين هذا النوع من الحب النقي الذي لا يريد سوى سعادة المحبوب: (عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى اللهم عليه وسلم يقول: كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت صاحبتها إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان بن داود فاخبرتاه فقال ائتوني بالسكين أشقه بينهما فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى). (البخاري، الحديث رقم 3173)، هذا هو الحب الذي تنبعث منه رائحة العطاء والتضحية، إنه حب فضلت فيه الأم الصغرى أن يبقى طفلها المحبوب حياً سعيداً حتى لو كان بعيداً عنها، ودعونا نؤكد أن الاستقلالية لم تكن في يوم من الأيام معياراً على نقص الحب، بل ربما الحرص على منع أولادنا من الاستقلال يمثل الحب النرجسي بأجلى صوره وهو حب مرفوض ومؤذ. ولنقف قليلاً عند بعضٍ من آيات الله الكثيرة المبثوثة في السماوات والأرض والتي نمر عليها ولا ننتبه لها في كثير من الأحيان. ولنأخذ الطيور ونتمعن في حرصها على البيض وتبادل الأنثى والذكر الجلوس عليه كي يفقس، ثم لنرى ما يبذله الأبوان من جهد في تأمين الطعام والمسافات الطويلة التي يقطعانها في سبيل ذلك، ثم لندقق النظر بحجم الجهد الذي يبذلانه كي يدربا صغارهما على الطيران ومن ثم الاستقلال عنهما. بمجرد أن يصبحوا قادرين على ذلك. إنني لا أدعو إلى طرد أولادنا من بيننا لمجرد أنهم صاروا كباراً فهذا أمر لا يدعو إليه عاقل لأن دفء العلاقات الأسرية الحميمة لا يعدله دفء سواء كان المستفيد من هذا الدفء الأبوان أم الأبناء. ولكني أدعو إلى إعادة النظر في طبيعة العلاقة بين الآباء والأبناء. إن ما يسميه البعض منا جحودا من ابنه لا يعدو أن يكون رغبة في الاستقلالية ينبغي أن نشجعه عليها بحنان وعطف طالما أنها في حدودها الطبيعية، لأن ضعف الاستقلالية عند الأبناء تجعلهم أسرى للآباء وربما عاشوا عالة عليهم، وتطرفها بالاتجاه الآخر يحطم العلاقات الأسرية التي نتمنى أن تبقى حميمة ومتينة لأن متانتها السبيل الوحيد لمتانة العلاقات الاجتماعية بصفة عامة. وعلى الأبناء أن يدركوا أن برهم لآبائهم وأمهاتهم خير لهم قبل أن يكون خيرا للآباء والأمهات، وعلى الوالدين أن يدركوا من ناحية ثانية أن بر أبنائهم لهم مرهون بحبهم الحقيقي لهم وبحسن تربيتهم وبمقدار الحب الحقيقي الذي يمنحونه لأبنائهم، والمؤلم أن الحياة مليئة بالنوع الثاني من الحب وهو في ظاهره عطاء للآخر وفي حقيقته عطاء للذات أي لذات المعطي حب مرهون بالحصول على المقابل. فكم من أم وأب يعطون ويغدقون في العطاء ولكنهم يأملون بالمقابل أن يرد أبناؤهم لهم هذا العطاء بعطاء مقابل.وإذا اردنا أن نعرف نوع الحب الذي يقدمه الأب أو الأم فلنتوقف ولنسمع ما يقوله أمثال هؤلاء الآباء حين يعطون ولا يجدون من أبنائهم أو بناتهم إلا الجحود؟ فإذا دعا الأبوان على أولادهما الجاحدين فحبهم نرجسي وإذا كان الدعاء لهم بالهداية فذاك هو الحب الحقيقي، لأنهم بهذا لا يعينون الشيطان عليهم بل يعينونهم على الشيطان ويؤكدون أنهم إنما أعطوهم لوجه الله لا يريدون منهم جزاء ولا شكورا، وأنه لابد أن يأتي اليوم الذي يحسون فيه بقيمة هذا العطاء، وأغلب الظن عندي أن من كان هذا ديدنه مع أولاده فيندر أن يكونوا جاحدين.