في خطواته الواثقة المباركة منذ تعيينه أميراً لمنطقة مكة المكرمة يواصل أمير المحبة والإبداع عمليات البناء والتطوير ليرتقي بهذه البقعة المباركة إلى مكان الصدارة تلبية لحاجات ساكنيها وزائريها وقاصديها من كل فج عميق سيدة الدنيا الذي انطلق منها النور والعلم والفن إلى العالم أجمع. فبرعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله، يقوم الأمير خالد الفيصل بتدشين سوق عكاظ التاريخي الذي يشكل مع مجموعة أخرى من الأسواق مثل مجنة وذو مجاز وحرج وغيرها ميداناً لتناشد الأشعار وتبادل الأفكار وإقامة الندوات السياسية والثقافية والأدبية، تقوم برامجها على التفاخر والتكاثر والتنافر والمقارعة والمعاظمة ينادي فيها المنادي ذوي الحاجات لتقضى لهم يؤمها طالب الربح والتجارة وطالب الأمن والفداء. كما يقصدها الأمراء ورسل الملوك. وكانت العرب تعظم هذه الأسواق في مواسمها المحددة ومواقيتها المعلومة وكما يقول الفيروزبادي: هناك (في سوق عكاظ) حكام العرب وحكماؤها الذين يحتكم إليهم الناس في مناظراتهم وأشعارهم وحوادثهم مثل أكثم بن صيفي وحاجب بن زاده والأقرع بن حابس وعبد المطلب وأبو طالب وغيرهم، وكانت سوق عكاظ دوماً تعج بالقاصدين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم بيعاً وتجارة وتفاخراً شعراً ونثراً. كان فيهم الخطباء المفوّهون وفطاحل الشعراء وأفواه الحكمة وكانوا من تعظيمهم لهذه الأسواق أنه لا يحضر إليها إلا من كان محرماً بالحج. وقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق عكاظ وسمع موعظة قس بن ساعدة ولا زال يذكرها قائلاً: «كأني أنظر إليه في عكاظ على جمل له أورق وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة ما أجدني أحفظه يرحم الله قساً إني لأرجو أن يُبعث يوم القيامة أمة وحده». كما وقف عليه السلام في عكاظ يدعو الناس إلى دين الله، وقد قيل إن نهضة الشعر ونقاء اللغة يعود الفضل فيه لعكاظ الذي انتهى سنة 129هجرية. ولعكاظ رسالة عظيمة في نفوس العرب آنذاك زيد عليه ما استجد في دنياهم بفضل الإسلام ولغة القرآن الكريم مما كان له أثر في تجدد لغة الخطاب الشعري والأدبي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وكان للمرأة في هذه الأسواق حضور وافر فقد كان الرجل يأتي ببناته لتزويجهن ورجال أتوا ليختاروا من يتزوجون بهن، فقد اصطحب أمية الكناني -مثلاً- ابنته وكانت من أجمل أهل زمانها فخطبها يزيد بن عبد الدان وتزوجها. كما لقي معاوية بن الشريد أسماء المرية في عكاظ وله معها قصة طويلة انتهت برثاء أخته الخنساء له فكان لها الفضل في إثراء اللغة العربية بأجمل ما قيل في شعر الرثاء. كما كان لهند بنت عتبة في سوق عكاظ قصائد في الرثاء في قتيلي بدر هي من أجمل ما قيل في هذا الفن. كما لقي عبد شمس بن عبد مناف عبلة بنت حنظلة في سوق عكاظ وتزوجها وللملحق الكلابي قصة تروى فقد أخذ زوجته وبناته الثماني إلى عكاظ وقعدن إلى الأعشى فقال فيهن شعراً جعل الأشراف من الحضور يتسابقون إلى خطبتهن لم يقم من مقعده حتى تزوجن كلهن. كما دعا رسول الله لضباعة بنت عامر في سوق عكاظ وكانت ممن أسلمن مع رسول الله وقد منعت عنه أذى بجره القشيري وقالت يا آل عامر أيصنع هذا برسول الله وهو بين أظهركم ولا أحد يمنعه. فقاموا إلى بجره يلطمونه على وجهه وصدره ورسول الله يقول: «اللهم بارك على هؤلاء وألعن هؤلاء..». وكانت خولة بنت ثعلبة التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات وهي تجادل في زوجها من رواد سوق عكاظ استوقفت عمر بن الخطاب في خلافته فوقف لها لتقول: «ايه يا عمر عهدتك وأنت تُسمى عميراً في سوق عكاظ تروع الصبيان بعصاك فلم تذهب الأيام حتى سُميّت عمراً ولم تذهب الأيام حتى سُميّت أمير المؤمنين».
وما أشبه اليوم بالبارحة فها هو سوق عكاظ يعود إلينا مرة أخرى برعاية ملكية كريمة ليزيد من الحراك الثقافي والأدبي والشعري على صفحة الوطن وليكون موسوعة حيّة للتراث والثقافة وجسداً يربط ماضي هذا الوطن بحاضره، ففعاليات سوق عكاظ في ثوبها الجديد تتشابه في جنسياتها مع اسواق العرب التي كانت قائمة آنذاك فالندوات الفكرية والثقافية والأدبية والأمسيات الشعرية والوفود المشاركة من الداخل والخارج تعكس رؤيتها للعمل الثقافي وتوجهها الفكري والأدبي والشعري في قالب حضاري مميز... فلابد أن نتكاتف جميعاً لإثراء هذا السوق وتفعيل بنوده لمواكبة تغيرات العصر وليكون سداً منيعاً في وجه القادم الرخيص الذي أغشى الأنفس وأذهب روح الإسلام وعراه الوثيقة من قلوب الحاضرة ومكّن للغزو الفكري من أن يتقدم ليستولي على العقول ويسحرها وأن يكون للمرأة حضور مميز للمشاركة في كافة الفعاليات كما كانت عليه أيام عكاظ وأن يكون دورها بارزاً وحضورها مميزاً، لا نريدها زائرة مع زوجها أو محرمها وحسب، بل نريد أن نراها مشاركة شعراً ونثراً وفكراً وثقافة في فعاليات سوق عكاظ تعتلي منبر الرجال ليسمع صوتها عالياً في الداخل والخارج، فوطننا يزخر بمواهب عظيمة في الشعر والقصة والأدب والثقافة النسائية، فلماذا نهمشهن ونفصلهن وهذا الفصل ليس من الإسلام في شيء ولا أصل له في الدين وإنما هو من بنات تقاليد مستوردة لا أساس لها في مجتمعنا. فلنفتح الأبواب فهذا الوطن في حاجة إلى سواعد أبنائه وبناته فبه يسودان الدنيا وبهم تسود الأوطان.
أخبار ذات صلة