قرأت مؤخرا أن وزارة النقل متجهة نحو إسناد بناء وتشغيل مشاريع الطرق السريعة إلى القطاع الخاص، وفرض رسوم على استخدام الطرق التي تربط بين المدن، والتي سينفذها القطاع الخاص، وذلك لتغطية تكاليف بنائها وتشغيلها، وتذكرت أنني قبل قرابة أربع سنوات، أي قبل الأزمات والتحديات الحالية التي نواجهها في ظل انخفاض أسعار النفط، كتبت مقالا بعنوان: (فرض الضرائب.. توجه تنموي حان وقته)، كنت أنظر حينها إلى الأمر بأنه «ضرورة قصوى» لتسريع عجلة المشاريع التنموية وتحسين مستوى الخدمات، ولم يكن القصد من فرض الضرائب زيادة الأعباء المادية على كاهل المواطن، بل العكس تماما من ذلك، حيث إن الأنظمة الضريبية بشتى أصنافها وتطبيقاتها يجب أن تخدم مبادئ أساسية وهي الإنتاجية (أي أن يوفي الإيراد الضريبي ما تحتاجه الدولة في الإنفاق على المشاريع المنشودة)، والعدالة الضريبية على المكلفين بدفعها بنسب متفاوتة وهم ذوو الدخل الثابت المرتفع والقطاع الخاص والوافدون بمختلف درجات دخلهم، بحيث يكون الاستحقاق الضريبي طبقا للمقدرة التكليفية وبما يتفق وقاعدة العدالة الضريبية، على أن تجبى هذه الضرائب بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية التي حددت شروطا لإجازتها.
للأسف، لم يكن هذا الطرح متقبلا من الكثيرين في ذلك الوقت، بل إن بعض الصحف الإلكترونية ورواد التواصل الاجتماعي وجهوا لي انتقادات شديدة بسبب هذه المطالبة دون محاولة التمعن في أهمية الأنظمة الضريبية التي سار عليها العالم الأول بأكمله لدعم تحقيق التنمية والتطور والنماذج التي انبهرنا وطالبنا بها، ولكن دون أن نسأل عن المقابل.
ولم يكن هذا المطلب غريبا أو مفاجئا حتى يستهجنه البعض، ففي مطلع يناير من عام 2002م، أي قبل 14 عاما من يومنا هذا، قال وزير المالية الدكتور إبراهيم العساف خلال أحد لقاءات مجلس الأعمال السعودي الأمريكي (USSABC): «أيام كان دخل الفرد في السعودية من أكبر الدخول في العالم، في تلك الأيام الطيبة لم نفكر في فرض ضرائب لا على الموظفين ولا على العمال ولا على التجار ورجال الأعمال، والآن نفكر في فرض ضرائب لتعزيز هيكل الميزانية». لكن لم تُطبَّق تلك الرؤية في ذلك الوقت، ربما نتيجة لمخاوف عديدة من احتمالية التهرب الضريبي ورحيل رؤوس الأموال إلى الخارج إلى حيث الملاذات الضريبية الآمنة وسرية الحسابات البنكية في أماكن متعددة من العالم، وبالتالي قد تقع الضريبة على كاهل ذوي العمل الوظيفي وليس على أصحاب الأعمال الحرة، بمعنى أن الذين يجب أن يدفعوا لن يدفعوا كما في عديد من دول العالم الثالث.
ولكن الظروف الحالية باتت مهيأة بشكل كبير في الاستفادة الفعلية من إقرار فرض نظام ضريبي شامل في ظل الحاجة الماسة لهذا المورد المالي الإستراتيجي، خاصة مع انتهاء عصر سرية الحسابات البنكية وانحسار الملاذات الضريبية حول العالم بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية والأمنية التي يمر بها العالم منذ اندلاع أحداث سبتمبر 2001م.
إضافة إلى أن الضريبة، كما في دول العالم المتقدم، هي مورد سيادي أساسي ولها ضرورة قصوى في دعم الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة ومشاريع البنية التحتية، وجزء أساس من المسؤولية المشتركة بين المسؤول والمواطن والمقيم كما هو الحال في جميع دول العالم من حولنا.
ولذلك فالحاجة لنظام ضريبي باتت ملحة للحد من الاستنزاف السلبي الخطير لاقتصادنا الوطني، ومن الأمثلة على ذلك حجم الحوالات المالية التي تصدرها العمالة الوافدة إلى الخارج، والتي تجاوزت 20% من موازنة الدولة، وأيضا النسبة الضخمة للمواطنين الذين لا يملكون مساكن، التي تجاوزت الـ53%، كما توقعت عدد من التقارير الاقتصادية خلال الخمس سنوات الماضية احتمالية زيادة هذه النسبة إلى 80% في حال عدم وجود حلول مبتكرة للحد من هذه المعضلة، هذا بالإضافة إلى ظاهرة «تعثر المشاريع الحكومية»، حيث كشفت هيئة الرقابة والتحقيق مؤخرا عن أن نسبة تعثر مشاريع خطط التنمية بلغت 72%، فيما بلغت المشاريع المنتظمة 5% أما المتوقفة فبلغت 6% والمتأخرة 17%.
كما أن أنظمة الدولة أوضحت مشروعية وآلية فرض الضرائب كما هو مدرج في المادة العشرين من «نظام الحكم»، التي تنص على أنه «لا تفرض الضرائب أو الرسوم إلا عند الحاجة وعلى أساس من العدل.. ولا يجوز فرضها أو تعديلها أو إلغاؤها أو الإعفاء منها إلا بموجب النظام»، ولدينا نظام واضح وصريح لضريبة الدخل الصادر بالمرسوم الملكي رقم: م/‏1 التاريخ: 15/‏ 1/‏ 1425هـ، ولكن نظام ضريبة الدخل الحالي استثنى المواطن ولم يفرض قيودا ضريبية قوية على الحوالات المالية، وعليه احتلت المملكة المرتبة السابعة في العام 2012 من حيث الدول الأقل تعقيدا في قوانين الضرائب على مستوى العالم، وفقا لتقرير «دفع ضرائب» الصادر عن «بي دبليو سي» العالمية، بالتعاون مع البنك الدولي.
لذلك، يجب أن نعي بأن النظام الضريبي على مستوى العالم المتقدم تسخر إيراداته لتوفير احتياجات المواطن في المقام الأول، وهو الذي أسهم في صنع تقدم العلم في الولايات المتحدة وأنظمة المواصلات المتقدمة في بريطانيا والبنى التحتية الخيالية في ماليزيا، وما إلى ذلك.
واليوم، أكرر ما طرحته سابقاً، بأن إقرار النظام الضريبي من المفترض أن يكون أوفر مادياً على المواطن، لأننا سوف ندفع نسباً مقتدراً عليها حسب مستوى الدخل ونعجل في تفعيل حلول أسرع لقضايانا الاقتصادية الأساسية مثل توفير السكن ومكافحة البطالة وتحسين الخدمات العامة وإنجاز المشاريع في أوقات قياسية.
ونعود لمسألة أهمية فرض الرسوم على الطرق السريعة وربطها بفكرة النظام الضريبي.. سنجد أننا لو دفعنا نسبة 1% من دخل الفرد - على سبيل المثال - لتحسين تعبيد الطرقات وصيانتها على مدار العام، أوفر بكثير من أن ندفع قيمة صيانة مركباتنا من آثار حفر الشوارع، وأن ندفع - على سبيل المثال - 5% من الدخل لدعم مشاريع تنموية لتوفير مساكن للمواطنين أفضل من تحمل أعباء الاقتراض من البنوك.. وقِس على ذلك.