-A +A
عبد الله الرشيد*
في منتصف 2004 اختطف الجيش الإسلامي في العراق القنصل الإيراني في كربلاء فريدون جهاني عندما كان موجودا في منطقة اللطيفية وتم تصويره، وبُثَّ التسجيل في الفضائيات، حينها تدخل سريعاً أبو مصعب الزرقاوي – زعيم جماعة التوحيد والجهاد – وعقد اتفاقا مع الجيش الإسلامي يقضي بتسليم القنصل له، مقابل أن يقايض به إيران من أجل الإفراج عن أبناء أسامة بن لادن، تنازل الجيش الإسلامي عن الفدية التي كان يطالب بها، وسلم القنصل إلى الزرقاوي، لكن بعد أيام تفاجأوا بالقنصل الإيراني يتحدث عبر إذاعة طهران، دون أن تعقد أي صفقة أو يتم أي تبادل.
على الرغم من أن الزرقاوي يُعتبر العدو الشرس اللدود للطائفة الشيعية، فهو أول من سن استهداف رموزهم، وتفجير معابدهم، إلا أن هناك مؤشرات قوية، ودلائل متينة على علاقة وطيدة جمعته بالمخابرات الإيرانية وصلت إلى حد التسلح والتدريب والدعم والعلاج.

يروي سيف العدل، الضابط المصري السابق في القوات الخاصة، والمسؤول الأمني في تنظيم القاعدة خلفاً لأبي حفص المصري عن جوانب مهمة من حياة الزرقاوي وصلاته مع إيران، حيث أفاض في مذكراته التي عرفت باسم «الانسياح في الأرض»، متحدثاً عن شخصية الزرقاوي وتطورها من شاب بسيط خجول، إلى قائد عسكري مهم في تنظيم القاعدة أوكلت إليه مهمة «إقامة دولة إسلامية في العراق».
بدأ تقاطع الزرقاوي مع إيران حين أقامت القاعدة معسكراً تدريبياً تولى مهمة الإشراف عليه، لتدريب العناصر العرب الوافدين إلى القاعدة، اختيرت منطقة هيرات المحاذية للحدود الإيرانية كمقر لإقامة المعسكر، وكان الدافع الرئيسي وراء ذلك أن الحكومة الإيرانية كانت تسهل دخول المقاتلين إلى أفغانستان من المعبر الإيراني، بعد أن أصبحت المنافذ الأخرى مغلقة.
يقول سيف العدل: «كان التنسيق مع إيرانيين مخلصين في عدائهم للأمريكيين والإسرائيليين، وخلال هذه الفترة لاحظت على أبو مصعب تطوراً مهماً في شخصيته، فعند لقائنا الأول لم يكن أبو مصعب مبادراً بالكلام، وكانت أفكاره واهتمامه بالأخبار السياسية العامة محدودة، وأما الآن فقد أصبح مبادراً بالكلام، يهتم بكل الأمور تقريباً، يبادر إلى فتح العلاقات العامة التي قد تنجح مشروعه... وهكذا أصبح مشروع أبو مصعب يتقدم ويتنامى، من ناحية أعداد الإخوة الذين تقاطروا للحاق بمعسكره في هيرات، وكانت جنسياتهم متنوعة، فأصبح لديه سوريون وأردنيون وفلسطينيون وبعض اللبنانيين والعراقيين، واستطاع أن يبني علاقة مع تنظيم (أنصار الإسلام) الكردي، الذي كان ينتشر في شمال العراق، وكانت له قواعد وجود واضحة في إيران».
بعد الضربة الأمريكية على أفغانستان التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بدأ انسحاب عدد كبير من مقاتلي القاعدة خارج أفغانستان، يضيف سيف العدل: «بدأنا بالتوافد تباعاً إلى إيران، وكان الإخوة في جزيرة العرب والكويت والإمارات من الذين كانوا خارج أفغانستان، سبقونا إلى هناك، وبحوزتهم مبالغ جيدة ووفيرة من المال، شكلنا في إيران حلقة قيادة مركزية وحلقات فرعية، وبدأنا باستئجار الشقق لإسكان الإخوة وبعض عائلاتهم. قام الإخوة في (الحزب الإسلامي) من جماعة قلب الدين حكمتيار بتقديم المساعدة الجيدة لنا في هذا المجال، فقاموا بتوفير الشقق وبعض المزارع التي يمتلكونها ووضعوها تحت تصرفنا».
أصبحت إيران هي محطة التحرك، ونقطة إعادة التجمع بالنسبة للقاعدة، يقول سيف العدل: «بدأنا العمل وأعدنا الاتصال بالقيادة، من أجل مساندتها ودعمها من جديد، وكان هذا الأمر ضمن أهدافنا من عملية الخروج من أفغانستان، وبدأنا بتشكيل بعض المجموعات المقاتلة للعودة إلى أفغانستان لتنفيذ مهمات مدروسة هناك، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى بدأنا بدراسة حالة المجموعات والإخوة من أجل اختيار أماكن جديدة لهم. الأخ أبو مصعب ورفاقه الأردنيون والفلسطينيون اختاروا الذهاب إلى العراق، وقد كانت توقعاتنا ودراستنا المعمقة للأمور تشير إلى أن الأمريكان لا بد من أن يخطئوا ويغزوا العراق عاجلاً أم آجلاً، وأن هذا الغزو سيهدف إلى إسقاط النظام، فلا بد لنا من أن نلعب دوراً مهماً في المواجهة والمقاومة، وهذه فرصتنا التاريخية التي قد نستطيع من خلالها إقامة دولة الإسلام».
ربما كان هذا الاتفاق التاريخي بين سيف العدل والزرقاوي هو البداية الأولى لانطلاق مشروع داعش التي أصبح شعارها واسمها «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، فقد قال سيف العدل في نصيحة وداعية للزرقاوي قبيل رحيله للعراق: «يجب عليكم الإعلان بوضوح وصراحة أن هدفكم هو استئناف الحياة الإسلامية، من خلال إقامة دولة الإسلام التي ستقوم بحل جميع مشاكل الأمة».
مصادر متعددة تؤكد حكاية سيف العدل، وتفصح عن تفاصيل أخرى من علاقة الزرقاوي بإيران، منها كتاب (الزرقاوي.. الوجه الجديد لتنظيم القاعدة ، جان تشارلز بريسارد)، وموقع إخباري إنجليزي يدعى (تأملات على العراق)، تؤكد أن الزرقاوي خلال إقامته بأفغانستان، قام بتأسيس شبكته الخاصة التي امتدت من إيران إلى أوروبا. وأصبحت مدينة مشهد الإيرانية، محطة هامة تؤمن له الدعم اللوجستي والبشري، ومعبراً أساسياً لدخول رجاله وعتاده. وكان رجل الزرقاوي الأول في إيران شخصا يدعى (أبو علي)، وكان يدير خلية جهادية في ألمانيا أيضًا.
انخرط الزرقاوي بشكل أكبر مع إيران بعد الدخول الأمريكي لأفغانستان، وفي أكتوبر عام 2001 بدأ الأمريكان حملتهم للإطاحة بحركة طالبان. قاتل الزرقاوي ورجاله إلى جانب تنظيم القاعدة في هيرات وقندهار، وحين أُصيب الزرقاوي جرّاء قصف جوي أمريكي ذهب إلى طهران فوراً لتلقي العلاج الطبي. بقي الزرقاوي في إيران حتى أبريل عام 2002، فقرر إعادة بناء التنظيم، وأقام مخيمات ومنازل آمنة في زاهدان وأصفهان وطهران، وسافر إلى لبنان وسوريا لتجنيد المقاتلين.
وفي تحقيق انتهى بإلقاء القبض على خلية تابعة للزرقاوي بألمانيا، وجد المكتب الفيدرالي الألماني للتحقيقات الجنائية أدلة على أن إيران أيّدت الزرقاوي بنشاط في ذلك الوقت. الاستخبارات الألمانية قالت إن الحرس الثوري الإيراني زود الزرقاوي بأرقام هاتفية يمكنه استخدامها لطلب المساعدة والدعم. كما أكّدت المخابرات الأردنية صحة التقارير الألمانية، قائلة إن إيران قدمت الأسلحة، والملابس، والمعدات للزرقاوي.
لفت احتجاز رجال الزرقاوي في ألمانيا انتباه السلطات الغربية إلى وجوده في إيران وكيف كانت تعمل شبكته. اشتكت كل من ألمانيا والولايات المتحدة من إيواء طهران للإرهابيين. ردّ الإيرانيون باعتقال الزرقاوي وكل رجاله في البلاد. ثمّ أفرجت عنه بعد بضعة أسابيع، ليغادر فوراً إلى سوريا، ومن ثمّ إلى كردستان العراق. وفي مايو عام 2002 - أي قبيل الدخول الأمريكي للعراق- كان الزرقاوي في بغداد يعد العدة لتأسيس تنظيمه الجهادي في العراق وكأنه على علم بضربة أمريكية وشيكة.
كانت إيران تعمل منذ وقت مبكر على إفشال التدخل الأمريكي في العراق، وإشغال القوات الأمريكية داخليا قدر المستطاع، تجنبا لأي خطر مستقبلي يهدد النظام الإيراني نفسه، حتى لا تكون إيران هي الوجهة القادمة للقوات الأمريكية حال نجاحها في العراق.
التقارير الأمنية التي كانت ترصدها الولايات المتحدة والسلطات العراقية، كانت دائما تكشف عن تورط إيران بمحاولات للتدخل في الشأن العراقي الداخلي، من حيث تزويد الجماعات المقاتلة بالسلاح والعتاد. كان أبرز دليل على ذلك علاقتها المتينة المستمرة مع النجم الجهادي الصاعد بقوة في أرض العراق حينها أبو مصعب الزرقاوي، أثناء قيادته لمعركة الفلوجة الدامية التي جرت بين جماعة التوحيد والجهاد والقوات الأمريكية في 2004، حيث احتمى الزرقاوي لأسابيع في معسكر تابع للحرس الثوري في منطقة مهران على الحدود مع العراق قبل أن يغادرها إلى بعقوبة بمساعدة «فيلق القدس» . وفقاً لما روته بعض الصحف البريطانية، على رأسها صحيفة «الصنداي تايمز»، التي نشرت مقالا في سنة 2005، أكدت فيه انتقال أبو مصعب الزرقاوي إلى إيران من أجل تلقي العلاج، بعد أن أصيب خلال غارة جوية أمريكية، و«أن دخوله إلى إيران متكرر ودائم سواء لتلقي العلاج أو للهروب من أجل الاحتماء عند اشتداد المعارك».
أما عن استهدافه لرموز ومساجد الشيعة، فإن الأحاديث قد استفاضت أخيرا حول تورط إيران في استهداف دور العبادة، ومنه تورطها في تفجير مرقد الإمامين بالعراق 2006.