-A +A
عكاظ (وكالات)
فتح التقدّم في مجال العلوم البيولوجية في العقود الأخيرة، وخاصة في علوم الهندسة الوراثية الباب أمام رواد صناعة النسيج لخلق ألياف جديدة أكثر مرونة ومتانة وتنوّعا وقابلية للتحلّل الحيوي وأقلّ تلويثا للبيئة.

ويأمل الخبراء من خلال تقنيات تستخدم كائنات حية مثل البكتيريا والطحالب والفطريات والخلايا الحيوانية وخيوط العنكبوت والحليب، في إحداث ثورة في صناعة الأزياء، التي تتعرّض لانتقادات بسبب كثافة استخدام الطاقة والمياه وارتفاع الانبعاثات والتلوث.


وبدأت صناعة الأزياء بالتركيز على “المبادئ الخضراء” في السنوات الأخيرة من خلال أعداد متزايدة من الباحثين والمهندسين والمصمّمين المهتمين الذين يحاولون إيجاد أقمشة مستدامة صديقة للبيئة، بعد أن أدركوا أنه لا سبيل سوى استخدام مواد حيوية أكثر ملائمة للعصر الحالي الذي أخذ يعزف عن استخدام المواد الضارّة بالبيئة.

وتمكّنت الأبحاث من إنشاء جلود وألياف مصنوعة من الطحالب والحليب المنتهية صلاحيته، والبكتيريا المعدّلة وراثيا. وأثبتت إمكانية إنتاج مواد مصنّعة بيولوجيا ومستدامة بنسبة 100 بالمئة، تتسم بالفعالية وتتصف بالطابع الجمالي في الوقت نفسه، بل يكون لها تأثير ايجابي على البيئة في نهاية دورة حياتها تتحلل وتتحوّل إلى سماد.

ربما يتساءل البعض عن حجم وتوقيت الثورة التي يمكن أن تحدثها في صناعة الملابس؟ وسيعتمد ذلك على وتيرة تدفّق الاستثمارات إلى تطوير هذه الأنسجة “الخضراء” التي من المرجّح أن تتسارع ليس بسبب صداقتها للبيئة، بل أيضا المزايا الكثيرة، التي تجعلها مثالية لمستقبل صناعة النسيج.

ومن المتوقّع في المستقبل غير البعيد أن تصنع الملابس وتصبغ باستخدام الكائنات الحية، ما يؤدّي إلى التخلّص من العديد من العمليات الكيميائية التي جعلت من قطاع صناعة الأزياء واحدا من أكثر الصناعات تلويثا في العالم.

ثمن بيئي باهظ

تنطوي صناعة المنسوجات على بيانات مثيرة للقلق، فمن بين 80 مليار قطعة ملابس تباع في أنحاء العالم سنويا، ثلاثة أرباع منها تصنع من ألياف البوليستر والقطن.

وفي عام 2018 تم إنتاج 45 مليون طن من البوليستر بشكل أساسي لصناعة النسيج، وهذه الألياف الاصطناعية مشتقة من البتروكيماويات وتستخدم موارد غير متجددة وملوثة ولها عواقب بيئية مدمرة، وتحتاج إلى أكثر من 200 عام لتتحلل حيويا بشكل كامل.

أما بالنسبة للألياف النباتية الأكثر استهلاكا وهي القطن، فقد تم إنتاج 26.7 مليون طن العام الماضي، وهو محصول يتطلب الكثير من الأراضي الزراعية والمياه، حيث تحتاج زراعة ومعالجة وصباغة الكيلوغرام الواحد إلى 13 ألف لتر من المياه.

كما أن صناعة النسيج مسؤولة عن 20 بالمئة من المخلفات الملوثة للمياه ونحو 10 بالمئة من الانبعاثات الكربونية في العالم. وما هو أسوأ من ذلك وفقا لإحصائيات كانت أصدرتها منظمة الصحة العالمية، فإن 28 ألف فلاح يموتون سنويا بسبب تأثير المبيدات الكيميائية للمحاصيل القطنية.

وهذه الأضرار التي تسببها صناعة المنسوجات والملابس على الصعيدين البيئي والإنساني، كانت دافعا كبيرا وراء خلق أنواع جديدة من المواد بصفات مثالية وأساليب تضع العامل البيئي والإنساني في الحسبان، وذلك باستخدام العمليات الطبيعية كمصدر إلهام.

ومن الشركات الناشطة في هذا المجال، شركة “سبايبر” اليابانية الناشئة المتخصصة في إنتاج البروتينات التركيبية للمواد الحيوية، التي تعاونت مؤخرا مع شركة “نورث فايس” لإنتاج خيوط عنكبوت حريرية من البكتيريا المخمّرة، وصناعة أول سترة تجارية أطلق عليها اسم”مون باركا” أو “سترة القمر”.

خيوط عنكبوت خارقة

يعدّ حرير العنكبوت من أقوى المواد الطبيعية وهو مرن وخفيف وتبلغ متانته خمسة أضعاف متانة وقوة الفولاذ إذا ما قورنت وزنا بوزن. وهذه المواصفات والخصائص المذهلة تجعله النسيج المثالي للملابس الخارجية، ويمكن استخدامه كذلك في العديد من التطبيقات مثل الخيوط الجراحية الدقيقة والملابس المقاومة للقذائف وحتى خيوط شباك صيد السمك وخيط الصنارة.

لكن المشكلة التي تواجه القطاع الصناعي تتمثّل في إيجاد طريقة لإنتاج المادة بكميات صناعية مجدية.

وتنتج العناكب خيوطها الحريرية بشكل طبيعي من بروتين ممزوج بالماء، وتخرجها من فتحة صغيرة جدا من أبدانها لتشرع في نسجها كما هو الخيط العادي.

وعلى عكس دودة القز التي يمكن أن تربى على أوراق التوت لإنتاج الحرير فإن العناكب يصعب السيطرة عليها وأقلمتها على الاستزراع وهي حشرات فردية وعدوانية.

وحاول العلماء منذ عدة أعوام إنتاج تلك الخيوط الثمينة عن طريق التعديل الوراثي للنباتات والخمائر وديدان الحرير أو حتى الماعز التي تحتوي غددها الثديية على جين خاص بحيث ينتج لبنها بروتين الحرير، لكن الخيوط التي أنتجت لم تكن قوية بما يكفي ولم تحمل معظم سمات حرير العنكبوت الطبيعي.

وقد اختار تحالف سبايبر ونورث فايس أسلوبا مختلفا، بصياغة الشفرة الوراثية للأحماض الأمينية للعنكبوت بواسطة الكمبيوتر ونقلتها إلى البكتيريا الإشريكية القولونية لحفزها على إنتاج تلك الخيوط الرفيعة والصلبة، وبعد ذلك تم تغذية البكتيريا بالسكريات والمعادن لتتكاثر وتنتج الألياف.

وتتمتع “سترة القمر” التي تمّ تطويرها بواسطة خيوط حرير العنكبوت الاصطناعية بنفس مقاومة المنسوجات المصنعة من مشتقات البترول، لكنها أكثر ملائمة للبيئة وقابلة للتحلل.

ويبقى السعر حاليا العقبة الحقيقية أمام الاستخدام الواسع لحرير العنكبوت الاصطناعي، إذ تصل تكلفة إنتاجه بواسطة عملية التخمير تلك حوالي 100 دولار للكيلوغرام الواحد، أي أكثر من 10 أضاف تكلفة النايلون والألياف الاصطناعية الأخرى.

ومن الشركات الرائدة أمسيلك الألمانية التي تستخدم بكتيريا معدلة وراثيا لإنتاج بروتين حرير العناكب. وقد احتفلت مؤخرا بإطلاق أول منتج يتمثّل في حزام ساعة فاخر. وتعمل لإنتاج العديد من المنتجات باستخدام تلك الألياف بضمنها أحذية رياضية قابلة للتحلّل لشركة “أديداس”.

ويقول الرئيس التنفيذي للشركة جينس كلاين “من حيث التصميم يمكنك ضبط خصائص المواد من المستوى الجزيئي، ما يمنحك سيطرة أكبر بكثير على المنتج النهائي مقارنة بالمواد التقليدية”. ويضيف أن صناعة الأزياء

مثل العديد من الصناعات تكافح لتلبية معايير الجودة والاستدامة، فالمستهلكون من ناحية يريدون منتجات ذات خصائص أداء أفضل، ومن ناحية أخرى أساليب إنتاج أكثر استدامة، والمواد التقليدية لا يمكن أن تلبّي كلا الطلبين، في حين أن المواد المصنّعة بيولوجيا يمكنها ذلك.

ارتداء الطحالب والحليب

دفعت الحاجة الماسّة، لتشكيل بدائل للمواد الكيميائية السامة المستخدمة في صناعة وصبغ الأقمشة والتي تضرّ وتقتل الآلاف من العمال، باحثين في شركة “ألغا لايف” الألمانية إلى تطوير ألياف وأصباغ باستخدام الطحالب البحرية.

وتقول المديرة التنفيذية للشركة رينانا كريبس إنّ الملابس المصنوعة في “ألغا لايف” ليست فقط أكثر استدامة من حيث التلوث واستخدام المياه والطاقة، بل أيضا مصمّمة لرعاية جلد مرتديها بفضل المركبات الطبيعية التي تنتجها الأعشاب البحرية.

وتضيف “لديك منتج صحي خال من المواد الكيميائية وخال من مبيدات الآفات ومغذي للبشرة، نريد صناعة الأزياء النظيفة والصحية والمستدامة للعمال والمستخدمين النهائيين. نحن المحرّك الأخضر لثورة الموضة”.

وتهدف شركة “ألغا لايف” إلى الوصول إلى الإنتاج الضخم بحلول العام المقبل.

تستخدم شركة “مي تيرو” الناشئة ومقرها لوس أنجلس، الحليب المنتهية صلاحيته أو غير المستخدم لإنتاج ألياف نسيجية ليست مفيدة للبيئة فحسب بل لمالكها أيضا. وتقول إن المنسوجات تتمتع بمزايا كبيرة مقارنة بتلك المصنوعة من القطن.

وتستغرق عملية معالجة الحليب وتحويله إلى ألياف حوالي شهرين، حيث يتم تخمير الحليب وخلطه وإزالة محتواه من الدهون، ثم التخلّص من الماء مما ينتج عنه حليب مجفف. وتجري تنقيته لإزالة جميع المواد بخلاف البروتين الطبيعي الذي يُعرف باسم الكازين، الذي يتم عزله وغمره في محلول لتتصلّب البروتينات وتتحوّل إلى ألياف. بعد ذلك تتم إزالة المحلول، وتمدّد الألياف لتغزل وتكون جاهزة للاستخدام في صناعة النسيج.

وتقول الشركة إن كوبا واحدا من الحليب يكفي لصناعة 5 قمصان، أكثر نعومة من القطن بثلاثة أضعاف، وتمنح مرتديها إحساسا يشبه الحرير. وهي مطاطية في كل اتجاه ومضادة للجراثيم ومقاومة للرطوبة ومانعة للأشعة فوق البنفسجية. وبفضل الجيوب الصغيرة في المادة، فإنها تقيّد الروائح وتسمح بتدفق الهواء بشكل أفضل.

ويقول روبرت لوه الرئيس التنفيذي ومؤسس الشركة إن 128 مليون طن من منتجات الألبان يتم إلقاؤها كل عام، وهو مستاء للغاية من هذه الكمية الهائلة من نفايات الألبان.

ويؤكد على أن رؤية شركته هي جعل الأرض خضراء مرة أخرى، ولتحقيق ذلك يحتاج إلى تعليم الناس تسوق المنتجات الصديقة للبيئة، وجعل الأزياء “الخضراء” في متناول الجميع.

بكتيريا تنتج الجلود

للتحرر من جلود الحيوانات، ابتكرت شركة “مودرن ميدو” في نيويورك مادة أطلق عليها اسم “زوا” وهي مادة بيولوجية شبيهة بالجلد الطبيعي. وذلك عن طريق تعديل الحمض النووي للخميرة لإنتاج بروتين الكولاجين، وهو المكوّن الرئيسي للجلد.

والجلد الحيوي الذي تم إنشاؤه بواسطة عملية التخمير يتميّز بخصائص وصفات مثالية كالليونة والمتانة، ويمكنه التحوّل إلى أيّ شكل والاندماج مع مواد أخرى ويتيح إمكانيات جديدة للتصميم غير ممكنة مع الجلود التقليدية.

كما أن عملية إنتاج الجلد المزروع في المختبر، أكثر كفاءة، حيث تستغرق أسبوعين فقط من البداية إلى النهاية، في حين أن إنتاج الجلود التقليدية يستغرق سنوات، من تربية الحيوانات ثم ذبحها ومعالجة الجلد لعدة أسابيع لتحويله إلى منتج صالح للاستخدام.

ويقول كبير مسؤولي التكنولوجيا بالشركة ديفيد وليامسون “إنه يوفر مزايا مهمة على الجلود الحيوانية، إذ يمكننا هندسة المواد لدينا لتلبية احتياجات التطبيق المحددة”.

ودخلت “مودرن ميدو” مؤخرا في شراكة مع شركة “ايفونيك” التي تتمتع بأكثر من ثلاثة عقود من الخبرة في مجال تطوير المنتجات القائمة على التخمير، وذلك لرفع مستوى إنتاج الكولاجين إلى نطاق تجاري.

وفي بريطانيا طوّرت شركة “فابر فيوتشرز” طريقة للصباغة بواسطة التخمير والبكتيريا بدل المواد الكيميائية، وهي تعدّ بثورة في صناعة النسيج بحسب المؤسسة والرئيسة التنفيذية، التي تقول إنها لا تحتاج لمواد كيميائية لأن الصبغة يتم نشرها مباشرة على النسيج وأنها تقلّص استخدام المياه 500 مرة مقارنة بالصبغة التقليدية.

لكن رغم كثرة الحلول المبتكرة، التي تستثمر الطبيعة لتزويد صناعة النسيج والأزياء بخيارات مستدامة، إلا أنها تحتاج للكثير من الوقت والعمل لتحلّ محلّ الأساليب التقليدية لإنتاج وصبغ النسيج. ويكمُن أحد التحديات الكبيرة في تحويل العمليات البيولوجية للنماذج الأولية إلى إنتاج واسع على نطاق تجاري يؤدي إلى خفض التكاليف لطرحه بأسعار معقولة.

وفي ظل ضغوط الهواجس البيئية وتدفق الاستثمارات فإن صناعة الأزياء تبدو مهيأة للتغيير بشكل جذري نحو مستقبل مستدام. قد يستغرق ذلك وقتا، ولكن ألم يستغرق تطوير النايلون عقودا في القرن الماضي ليصبح اليوم متاحا في كل مكان.